الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{عَيۡنٗا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلۡسَبِيلٗا} (18)

و " عَيْناً " فيها من الوجوه ما تقدَّمَ .

قوله : { سَلْسَبِيلاً } : السَّلْسَبيل : ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف . قال الزجاج : " هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة " . وقال الزمخشري : " يقال : شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل ، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً ، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ " . قال الشيخ : " فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه ، وكان مختلفاً في المادة " . وقال ابن الأعرابي : " لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ " . وقال مكي : " هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ ، فلذلك صُرِفَ " .

ووزن سَلْسَبيل : فَعْلَلِيْل مثلَ " دَرْدَبيس " . وقيل : فَعْفَليل ؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ . وقرأ طلحةُ " سَلْسَبيلَ " دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث ؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها ، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ ؟ فيُجاب : بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين

{ سَلاَسِلَ } [ الإِنسان : 4 ] { قَوَارِيرَاْ } [ الإِنسان : 15 ] وقد تقدَّمَ . وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن : مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ . والتقدير : سَلْ أنت سَبيلا إليها . قال الزمخشري : " وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه : سَلْ سبيلاً إليها " . قال : " وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره ، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ " سَلْ سبيلاً " جَعِلَتْ عَلَماً للعين ، كما قيل : تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا . وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح ، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ . وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين :

سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ *** سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ

قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول : " وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه " . قلت : ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه ، ولم يتعجَّبْ منه ؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع . وقال أبو البقاء : " والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ " . وفي قوله : " كلمة واحدة " تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور .