الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَدَانِيَةً عَلَيۡهِمۡ ظِلَٰلُهَا وَذُلِّلَتۡ قُطُوفُهَا تَذۡلِيلٗا} (14)

قوله : { وَدَانِيَةً } : العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها عطفُ على محلِّ " لا يَرَوْن " . الثاني : أنها معطوفة على " مُتَّكئين " ، فيكونُ فيها ما فيها . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف ؟ قلت : على الجملةِ التي قبلها ، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم ، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في " عليهم " إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ ، تقديره : غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية . ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم . كأنَّه قيل : وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها : بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم . الثالث : أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي : وجنةً دانِيَةً ، قاله أبو البقاء . الرابع : أنها صفةٌ ل " جنةٌ " الملفوظِ بها ، قاله الزجَّاج .

وقرأ أبو حيوةَ " ودانِيَةٌ " بالرفع . وفيها وجهان ، أظهرهما : أَنْ يكونَ " ظلالُها " مبتدأ و " دانيةٌ " خبرٌ مقدمٌ . والجملةُ في موضعِ الحال . قال الزمخشري : " والمعنى : لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم " . والثاني : أَنْ ترتفعَ " دانيةٌ " بالابتداء ، و " ظلالُها " فاعلٌ به ، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو : " قائمٌ الزيدون " ، فإنَّ " دانية " لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون ، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ " ظلالُها " وهذا لا حُجَّة له فيه ؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم .

وقال أبو البقاء : " وحُكِيَ بالجَرِّ أي : في جنَّةٍ دانية . وهو ضعيفٌ ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ " . قلت : يعني أنَّه قُرِىء شاذاً " ودانِيَةٍ " بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه : " لا يَرَوْنَ فيها " أي : ولا في جنةٍ دانيةٍ . وهو رَأْيُ الكوفيين : حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ ؛ ولذلك ضَعَّفَه ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة .

وأمَّا رَفْعُ " ظلالُها " فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و " عليهم " خبرٌ مقدمٌ ، ولا يرتفع ب " دانية " ؛ لأنَّ " دنا " يتعدَّى ب " إلى " لا ب " على " . والثاني : أنها مرفوعةٌ ب " دانية " على أَنْ تُضَمَّن معنى " مُشْرِفَة " لأنَّ " دنا " و " أَشْرَفَ " يتقاربان ، قال معناه أبو البقاء ، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ " دانيةً " أيضاً .

وقرأ الأعمش " ودانِياً " بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب " عليهم " ، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ .

وقرأ أُبَيٌّ " ودانٍ عليهم " بالتذكير مرفوعاً ، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ . وإنْ لم يَعْتَمِد . ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ . وقال مكي : " وقُرِىء " دانِياً " ثم قال : " ويجوزُ " ودانيةٌ " بالرفعِ ، ويجوزُ " دانٍ " بالرفعِ والتذكيرِ " ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا ، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك .

قوله : { وَذُلِّلَتْ } يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على " دانِيَةً " فيمَنْ نَصَبَها أي : ومُذَلَّلةً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في " عليهم " سواءً نَصَبْتَ " دانِيَةً " أو رَفَعْتَها ، أم جَرَرْتَها . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً . وأمَّا على قراءةِ رفعِ " ودانيةٌ " فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ . ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ .