البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَنۡ أَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (105)

أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له ، المفرد له بالعبادة ، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة ، وطابق الباطن الظاهر .

قال الزمخشري : يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل ، وبما أوحي إليّ في كتابه .

وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه ، أأثبت أم أتركه وأوافقكم ، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ، ولا تشكوا في أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ماتعبدون } وأمرت أن أكون أصله : بأن أكون ، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة ، مع أنّ وأنّ يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير { فاصدع بما تؤمر } انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي : اختار ، واستغفر ، وأمر ، وسمى ، ولبى ، ودعا بمعنى سمى ، وزوّج ، وصدّق ، خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني ، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو : بريت القلم بالسكين ، فيجيز السكين بالنصب .

وجواب إن كنتم في شك قوله : فلا أعبد ، والتقدير : فأنا لا أعبد ، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم ، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ .

وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله .

ومن عاد فينتقم الله منه أي : فهو ينتقم الله منه .

وتضمن قوله : فلا أعبد ، معنى فأنا مخالفكم .

وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله : وأمرت ، مراعى فيها المعنى .

لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين ، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر .

وقد أجاز ذلك النحويون ، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو .

ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي : وأوحي إليّ أن أقم ، فاحتمل أن تكون مصدرية ، واحتمل أن تكون حرف تفسير ، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى ، ليزول قلق العطف لوجود الكاف ، إذ لو كان وأنّ أقم عطفاً على أن أكون ، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف ، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى .

والوجه هنا المنحى ، والمقصد أي : استقم للدين ولا تحد عنه ، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين .

وحنيفاً : حال من الضمير في أقم ، أو من المفعول .

وأجاز الزمخشري أن تكون حالاً من الدين ، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم ، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية ، وكونها حرف تفسير .