البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

الهوى : الهبوط بسرعة ، قال الشاعر :

وإذا رميت به الفجاج رأيته***تهوي مخارمها هوى الأجدل

{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } : كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهاراً للتذلل ، والالتجاء إلى الله تعالى .

وأتى بضمير جماعة المتكلمين ، لأنه تقدم ذكره .

وذكر بنيه في قوله : واجنبني وبنيَّ ، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه .

وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة ، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل ، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة ، فنزل وترك ابنه وأمه هنالك ، وركب منصرفاً من يومه ذلك ، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى ، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية .

وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولإسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره .

ومِن للتبعيض ، لأنّ إسحاق كان في الشام ، والوادي ما بين الجبلين ، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء ، وإنما قال : غير ذي زرع ، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي ، وأنه يرزقها الماء ، وإنما نظر النظر البعيد فقال : غير ذي زرع ، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال : غير ذي ماء ، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك .

قال ابن عطية : وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء ، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء .

وقال الزمخشري : بواد هو وادي مكة ، غير ذي زرع : لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى .

واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولاً لقوله : لا يكون ، وليس هو ماضياً ، وهو مكان أبداً الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات .

والظاهر أن قوله : عند بيتك المحرم ، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء ، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة ، وفي آل عمران .

ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي : منع منه ، كما سمى بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لكونه لم يزل عزيزاً ممنعاً من الجبابرة ، أو لكونه محترماً لا يحل انتهاكه .

وليقيموا متعلق بأسكنت .

وربنا دعاء معترض ، والمعنى : إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة .

وقيل : هي لام الأمر ، دعا لهم بإقامة الصلاة .

وقال أبو الفرج بن الجوزي : اللام متعلقة بقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى .

وهذا بعيد جداً .

وخصّ الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها ، أو لأنها سبب لكل خير .

وقوله : ليقيموا بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك ، ويكون له نسل .

وأفئدة : جمع فؤاد وهي القلوب ، سمي القلب فؤاد لإنفاده مأخوذ من فأد ، ومنه المفتأد ، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم .

وقال مؤرج الافئدة : القطع من الناس بلغة قريش ، وإليه ذهب ابن بحر .

قال مجاهد : لو قال إبراهيم عليه السلام : أفئدة الناس ، لازدحمت على البيت فارس والروم .

وقال ابن جبير : لحجته اليهود والنصارى .

والظاهر أنّ من للتبعيض ، إذ التقدير : أفئدة من الناس .

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون مِن للابتداء كقولك : القلب مني سقيم يريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة انتهى .

ولا يظهر كونها لابتداء الغاية ، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها ، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس ، وإنما الظاهر في من التبعيض .

وقرأ هشام : أفئدة بياء بعد الهمزة ، نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على الإشباع ، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه القراءة على أنّ هشاماً قرأ بتسهيل الهمزة كالياء ، فعبر الراوي عنها بالياء ، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة ، والمراد بياء عوضاً من الهمزة ، قال : فيكون هذا التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو : بارئكم ويأمركم ، ونحوه بإسكان حركة الإعراب ، وإنما كان ذلك اختلاساً .

قال أبو عمرو الداني الحافظ : ما ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه ، لأنّ النقلة عن هشام وأبي عمر وكانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها ، وليس يفضي بهم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا وقرئ آفدة : على وزن فاعلة ، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد أي دنا وقرب وعجل أي : جماعة آفدة ، أو جماعات آفدة ، وأن يكون جمع ذلك فؤاد ، ويكون من باب القلب ، وصار بالقلب أأفدة ، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفاً كما قالوا .

في ارآم أأرام ، فوزنه أعفلة .

وقرئ أفدة على وزن فعله ، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد وذلك بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها وهو الفاء ، وإن كان تسهيلها بين بين هو الوجه ، وأن يكون اسم فاعل من أفد كما تقول : فرح فهو فرح .

وقرأت أم الهيثم : أفودة بالواو المكسورة بدل الهمزة .

قال صاحب اللوامح : وهو جمع وفد ، والقراءة حسنة : لكني لا أعرف هذه المرأة ، بل ذكرها أبو حاتم انتهى .

أبدل الهمزة في فؤاد بعد الضمة كما أبدلت في جون ، ثم جمع فأقرها في الجمع إقرارها في المفرد .

أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح ، وقلب إذ الأصل أوفده .

وجمع فعل على أفعلة شاذ نحو : نجد وأنجدة ، ووهى وأوهية .

وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب .

وقرأ زيد بن علي : إفادة على وزن إشارة .

ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا : اشاح في وشاح ، فالوزن فعالة أي : فاجعل ذوي وفادة .

ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة ، أو ذوي إفادة ، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم .

وقرأ الجمهور : تهوي إليهم أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً ، ولما ضمن تهوي معنى تميل عداه بإلى ، وأصله أن يتعدى باللام .

قال الشاعر :

حتى إذا ما هوت كف الوليد بها***طارت وفي كفه من ريشها تبك

ومثال ما في الآية قول الشاعر :

تهوى إلى مكة تبغي الهدى***ما مؤمن الجن ككفارها

وقرأ مسلمة بن عبد الله : تهوي بضم التاء مبنياً للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازمة ، كأنه قيل : يسرع بها إليهم .

وقرأ علي بن أبي طالب ، وزيد بن علي ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومجاهد : تهوى مضارع هوى بمعنى أحب ، ولما ضمن معنى النزوع والميل عدى بإلى .

وارزقهم من الثمرات مع سكانهم وادياً ما فيه شيء منها بأن يجلب إليهم من البلاد كقوله : { يجبى إليه ثمرات كل شيء } وروي عن مسلم بن محمد الطائفي أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة الثمرات ، بعث الله جبريل عليه السلام فاقتلع بجناحه قطعه من فلسطين .

وقيل : من الأردن فجاء بها ، وطاف بها حول البيت سبعاً ، ووضعها قريب مكة فهي الطائف .

وبهذه القصة سميت وهي موضع ثقيف ، وبها أشجار وثمرات .

وروي نحو منه عن ابن عباس .

لعلهم يشكرون .

قال الزمخشري النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد بباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء ، لا جرم أنّ الله عز وجل أجاب دعوة إبراهيم فجعله حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف ، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً ، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله .

بواد غير ذي زرع وهي : اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجيب .