البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

{ فإن طلقها } يعني الزوج الذي طلق مرة بعد مرة ، وهو راجع إلى قوله : { أو تسريح بإحسان } كأنه قال : فإن سرحها التسريحة الثالثة الباقية من عدد الطلاق .

قاله ابن عباس : وقتادة ، والضحاك ، ومجاهد ، والسدي .

ومن قول ابن عباس أن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق ، ويحتج بهذه الآية بذكر الله للطلاقين ، ثم ذكر الخلع ، ثم ذكر الثالثة بعد الطلاقين ، ولم يك للخلع حكم يعتدّ به .

وأما من يراه طلاقاً فقال : هذا اعتراض بين الطلقتين والثالثة ذكر فيه أنه لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة إلاَّ بالشريطة التي ذكرت ، وهو حكم صالح أن يوجد في كل طلقة طلقة وقوع آية الخلع بين هاتين الآيتين حكمية ، أن الرجعة والخلع لا يصلحان إلاَّ قبل الثالثة ، فأما بعدها فلا يبق شيء من ذلك ، وهي كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب .

{ فلا تحل له من بعد } أي : من بعد هذا الطلاق الثالث { حتى تنكح زوجاً غيره } والنكاح يطلق على العقد وعلى الوطء ، فحمله ابن المسيب ، وابن جبير ، وذكره النحاس في معاني القرآن له على العقد ، وقال : إذا عقد عليها الثاني حلت للأول ، وإن لم يدخل بها ولم يصبها ، وخالفه الجمهور لحديث امرأة رفاعة المشهور ، فقال الحسن : لا يحل إلاَّ الوطء والإنزال ، وهو ذوق العسيلة .

وقال باقي العلماء : تغييب الحشفة يحل ، وقال بعض الفقهاء : التقاء الختانين يحل ، وهو راجع للقول قبله ، إذ لا يلتقيان إلاّ مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وفي قوله : { حتى تنكح زوجاً غيره } دلالة على أن نكاح المحلل جائز ، إذ لم يعني الحل إلاّ بنكاح زوج ، وهذا يصدق عليه أنه نكاح زوج فهو جائز .

وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وداود ، وهو قول الأوزاعي في رواية ، والثوري في رواية .

وقول الشافعي في كتابه ( الجديد المصري ) إذا لم يشترط التحليل في حين العقد ، وقال القاسم ، وسالم ، وربيعة ، ويحيى بن سعد : لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم الزوجان ، وهو مأجور ، وقال مالك : والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي في القديم ، وأبو حنيفة في رواية : لا يجوز ، ولا تحل للأول ، ولا يقر عليه وسواء علماً أم لم يعلما .

وعن الثوري أنه لو شرط بطل الشرط ، وجاز النكاح ، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة .

وقال الحسن ، وابراهيم : إذا علم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح .

وفي قوله : زوجاً غيره ، دلالة على أن الناكح يكون زوجاً ، فلو كانت أمة وطلقت ثلاثاً ، أو اثنتين على مذهب من يرى ذلك ، ثم وطئها سيدها لم تحل للأول ، قاله علي ، وعبيدة ، ومسروق ، والشعبي ، وجابر ، وابراهيم ، وسليمان بن يسار ، وحماد ، وأبو زياد ، وجماعة فقهاء الأمصار .

وروي عن عثمان ، وزيد بن ثابت ، والزبير أنه يحلها إذا غشيها غشياناً لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالاً ، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق .

وفي قوله : زوجاً ، دلالة أيضاً على أنه لو كان الزوج عبداً وهي أمة ووهبها السيد له بعد بت طلاقها ، أو اشتراها الزوج بعدما بت طلاقها لم تحل له في الصورتين بملك اليمين حتى تنكح زوجاً غيره .

قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال ابن عباس ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن : تحل بملك اليمين .

وفي قوله : زوجاً غيره ، دلالة على أنه إذا تزوج الذمية المبتوتة من المسلم بالثلاث ذمي ، ودخل بها ، وطلقت حلت للأول .

وبه قال الحسن ، والزهري ، والثوري ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة ؛ وقال مالك ، وربيعة : لا يحلها .

وظاهر قوله : حتى تنكح زوجاً ، أنه بنكاح صحيح ، فلو نكحت نكاحاً فاسداً لم يحل ، وهو قول أكثر العلماء : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة .

وقال الحكم : هو زوج ، وأجمعوا على أن المرأة إذا قالت للزوج الأول : قد تزوجت ، ودخل علي زوجي وصدّقها .

أنها تحل للأول .

قال الشافعي : والورع أن لا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته .

وفي الآية دليل على أن سمي زوج كافٍ ، سواء كان قوي النكاح أم ضعيفه أو صبياً أو مراهقاً أو مجبوباً بقي له ما يغيبه كما يغيب ، غير الخصي ، وسواء أدخله بيده أو بيدها ، وكانت محرمة أو صائمة ، وهذا كله على ما وصف الشافعي قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وقول بعض أصحاب مالك .

وقال مالك في أحد قوليه : لو وطئها نائمة أو مغمي عليها لم تحل لمطلقها ، ومذهب جمهور الفقهاء أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لذلك الزوج إلاّ بخمسة شرائط : تعتدّ منه ، ويعقد للثاني ، ويطأها ، ثم يطلقها ، وتعتدّ منه .

وكون الوطء شرطاً قيل : ثبت بالسنة ، وقيل : بالكتاب ، وهو قول أبي مسلم ، وقيل : هو المختار .

لأن أبا عليّ نقل أن العرب تقول : نكح فلان فلانة بمعنى عقد عليها .

ونكح امرأته أو زوجته أي : جامعها .

وقد مر لنا طرق من هذا .

قال في ( المنتخب ) : بعد كلام كثير محصوله أن قوله : حتى تنكح زوجاً غيره ، يدل على تقدّم الزوجية .

وهي العقد الحاصل بينهما ، ثم النكاح على من سبقت زوجته ، فيتعين أن يراد به الوطء ، فيكون قوله : تنكح ، دالاً على الوطء ، و : زوجاً : يدل على العقد .

ولا يتعين ما قاله ، إذ يجوز أن لا يدل على أن تتقدم الزوجية بجعل تسميته زوجاً بما تؤول إليه حاله ، فيكون التقدير : حتى يعقد على من يكون زوجاً .

وقال في ( المنتخب ) أيضاً : أما قول من يقول : الآية لا تدل على الوطء ، وإنما ثبت بالسنة فضعيف ، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدوداً إلى غاية ، وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته ، فيلزم انتفاء الحرمة عند حصول النكاح ، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء هذه الحرمة عند حصول العقد ، فكان رفعها بالخبر نسخاً للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، أما إذا حملنا النكاح على الوطء ، وحملنا قوله زوجاً على العقد ، لم يلزم هذا الإشكال .

انتهى .

ولا يلزم ما ذكره من هذا الإشكال وهو أنه يلزم من ذلك نسخ القرآن بخبر الواحد ، لأن القائل يقول : لم يجعل نفي الحل منتهياً ، إلى هذه الغاية التي هي نكاحها زوجاً غيره فقط .

وإن كان الظاهر في الآية ذلك ، بل ثم معطوفات ، قبل الغاية المذكورة في الآية وما بعدها ، يدل على إرادتها ، وهي غايات أيضاً ، والتقدير : فلا تحل له من بعد ، أي : من بعد الطلاق الثلاث حتى تنقضي عدّتها منه ، وتعقد على زوج غيره ، ويدخل بها ، ويطلقها ، وتنقضي عدتها منه ، فحينئذ تحل للزوج المطلق ثلاثاً أن يتراجعا ، فقد صارت الآية من باب ما يحتاج بيان الحل فيه إلى تقدير هذه المحذوفات وتبيينها ، ودل على إرادتها الكتاب والسنة الثابتة ، وإذا كانت كذلك ، وبين هذه المحذوفات الكتاب والسنة ، فليس ذلك من باب نسخ القرآن بخبر الواحد ، ألا ترى أنه يلزم أيضاً من حمل النكاح هنا على الوطء أن يضمر قبله : حتى تعقد على زوج ويطأها ؟ فلا فرق في الإضمار بين أن يكون مقدماً على الغاية المذكورة المراد به الوطء ، أو يكون مؤخراً عنها إذا أريد به العقد ، فهذا إضمار يدل عليه الكتاب والسنة ، فليس من باب النسخ في شيء .

{ فإن طلقها } قيل : الضمير عائد على : زوج ، النكرة ، وهو الثاني ، وأتى بلفظ : إن ، دون إذا تنبيهاً على أن طلاقه يجب أن يكون على ما يخطر له دون الشرط . انتهى .

ومعناه أن : إذا ، إنما تأتي للمتحقق ، وإن تأتي للمبهم والمجوز وقوعه وعدم وقوعه ، أو للمحقق المبهم زمان وقوعه ، كقوله تعالى : { أفان مت فهم الخالدون } والمعنى : فإن طلقها وانقضت عدتها منه { فلا جناح عليهما } أي : على الزوج المطلق الثلاث وهذه الزوجة .

قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه بين أهل العلم على أن اللفظ يحتمل أن يعود على الزوج الثاني والمرأة ، وتكون الآية قد أفادت حكمين : أحدهما : أن المبتوتة ثلاثاً تحل للأول بعد نكاح زوج غيره بالشروط التي تقدمت ، وهذا مفهوم من صدر الآية ، والحكم الثاني : أنه يجوز للزوج الثاني الذي طلقها أن يراجعها ، لأنه ينزل منزلة الأول ، فيجوز لهما أن يتراجعا ، ويكون ذلك دفعاً لما يتبادر إليه الذهن من أنه إذا طلقها الثاني حلت للأول ، فبكونها حلت له اختصت به ، ولا يجوز للثاني أن يردها ، فيكون قوله : { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } مبيناً أن حكم الثاني حكم الأول ، وأنه لا يتحتم أن الأول يراجعها ، بل بدليل إن انقضت عدّتها من الثاني فهي مخيرة فيمن يرتد منهما أن يتزوجه ، فإن لم تنقضِ عدّتها ، وكان الطلاق رجعياً ، فلزوجها الثاني أن يراجعها ، وعلى هذا لا يحتاج إلى حذف بين قوله : { فإن طلقها } وبين قوله : { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } ويحتاج إلى الحذف إذا كان الضمير في : عليهما ، عائداً على المطلق ثلاثاً وعلى الزوجة ، وذلك المحذوف هو ، وانقضت عدّتها منه ، أي : فإن طلقها الثاني وانقضت عدتها منه فلا جناح على المطلق ثلاثاً والزوجة أن يتراجعا ، وقوله : { إن ظنا أن يقيما حدود الله } أي : إن ظن الزوج الثاني والزوجة أن يقيما حدود الله ، لأن الطلاق لا يكاد يكون في الغالب إلاَّ عند التشاجر والتخاصم والتباغض ، وتكون الضمائر كلها منساقة انسياقاً واحداً لا تلوين فيه ، ولا اختلاف مع استفادة هذين الحكمين من حمل الضمائر على ظاهرها ، وهذا الذي ذكرناه غير منقول ، بل الذي فهموه هو تكوين الضمائر واختلافها .

{ أن يتراجعا } أي : في أن يتراجعا ، والضمير في : عليهما ، وفي : أن يتراجعا ، على ما فسروه ، عائد على الزوج الأوّل والزوجة التي طلقها الزوج الثاني .

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنه الحر ، إذا طلق زوجته ثلاثاً .

ثم انقضت عدتها ، ونكحت زوجاً ودخل بها ، ثم نكحها الأول ، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات ثم ترجع إلى الأول ؛ فقالت طائفة : تكون على ما بقي من طلاقها ، وبه قال أكابر الصحابة : عمر ، وعلي ، وأبي ، وعمران بن حصين ، وأبو هريرة ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن التابعين : عبيدة السلماني ، وابن المسيب ، والحسن ، ومن الأئمة : مالك ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن نصر .

وقالت طائفة : يكون على نكاح جديد بهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين كما يهدم الثلاث ، وبه قال ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، والنخعي ، وشريح ، وأصحاب عبد الله إلاَّ عبيدة وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف .

وقيل : قول ثالث إن دخل بها الآخر فطلاق جديد ، ونكاح الأول جديد ، وإن لم يكن يدخل بها فعلى ما بقي .

{ إن ظنا أن يقيما حدود الله } أي إن ظن كل واحد منهما أنه يحسن عشرة صاحبه ، وما يكون له التوافق بينهما من الحدود التي حدها الله لكل واحد منهما ، وقد ذكرنا طرقاً مما لكل واحد منهما على الآخر في قوله : { ولهن مثل الذي عليهنّ بالمعروف } وقال ابن خويز : اختلف أصحابنا ، يعني أصحاب مالك ، هل على الزوجة خدمة أم لا ؟ فقال بعضهم : ليس على الزوجة أن تطالب بغير الوطء .

وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها ، فإن كانت شريفة المحل ، ليسار أبوة أو ترفه ، فعليها تدبير أمر المنزل وأمر الخادم ، وإن كانت متوسطة الحال فعليها ان تفرش الفراش ونحوه ، وإن كانت من نساء الكرد والدينم في بلدهن كلفت ما تكلفه نساؤهم ، وقد جرى أمر المسلمين في بلدانهم ، في قديم الأمر وحديثه ، بما ذكرنا .

ألا ترى أن نساء الصحابة كنّ يُكلَّفنّ الطحن والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك ، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك ، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصَّرن في ذلك .

و : إن ظنا ، شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه ، فيكون جواز التراجع موقوفاً على شرطين : أحدهما : طلاق الزوج الثاني ، والآخر : ظنهما إقامة حدود الله ، ومفهوم الشرط الثاني أنه لا يجوز : إن لم يظنا ، ومعنى الظن هنا تغليب أحد الجائزين ، وبهذا يتبين أن معنى الخوف في آية الخلع معنى الظن ، لأن مساق الحدود مساق واحد .

وقال أبو عبيدة وغيره المعنى : أيقنا ، جعل الظن هنا بمعنى اليقين ، وضعف قولهم بأن اليقين لا يعلمه إلاَّ الله ، إذ هو مغيب عنهما .

قال الزمخشري : ومن فسر العلم هنا بالظن فقد وهم من طريق اللفظ ، والمعنى : لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن : علمت أنه يقوم زيد ، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنم يظن ظناً .

انتهى كلامه .

وما ذكره من : أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ، قد قاله غيره ، قالوا : إن أن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعلا تحقيق ، نحو : العلم واليقين والتحقيق ، وإنما يعمل في أن المشددة ، قال أبو علي الفارسي في ( الإيضاح ) : ولو قلت علمت أن يقوم زيد ، فنصبت الفعل : بأن ، لم يجز ، لأن هذا من مواضع : أن ، لأنها مما قد ثبت واستقر ، كما أنه لا يحسن : أرجو انك تقوم ، وظاهر كلام أبي علي الفارسي مخالف لما ذكره سيبويه من أن يجوز أن تقول : ما علمت إلاَّ أن يقوم زيد ، فأعمل : علمت ، في : أن .

قال بعض أصحابنا : ووجه الجمع بينهما أن : علمت ، قد تستعمل ويراد بها العلم القطعي ، فلا يجوز وقوع : أن ، بعدها كما ذكره الفارسي ، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي ، فيجوز أن يعمل في : أن ، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله : { فان علمتموهنّ مؤمنات } فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي ، لأن القطع بإيمانهنّ غير متوصل إليه ، وقول الشاعر :

وأعلم علم حق غير ظن***

وتقوى الله من خير المعاد

فقوله : علم حق ، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق ، وكذلك قوله : غير ظن ، يدل عليه أنه يقال : علمت وهو ظان ، ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من أن : علمت ، قد يعمل في : أن ، إذا أريد بها غير العلم القطعي قول جرير :

نرضى عن الله أن الناس قد علموا***

أن لا يدانينا من خلقه بشر

فأتى بأن ، الناصبة للفعل بعد علمت .

انتهى كلامه .

وثبت بقول جرير وتجويز سيبويه أن : علم ، تدخل على أن الناصبة ، فليس بوهم ، كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ .

وأما قوله : لأن الإنسان لا يعلم ما في غد ، وإنما يظن ظناً ، ليس كما ذكر ، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرة مما يكون في الغد ، ويجزم بها ولا يظنها .

والفاء في : فلا تحل ، جواب الشرط ، وله ، ومن بعد ، وحتى ، ثلاثتها تتعلق بتحل ، واللام معناها التبليغ ، ومن ابتداء الغاية ، وحتى للتعليل .

وبُني لقطعه عن الإضافة ، إذ تقديره من بعد الطلاق الثالث ، وزوجاً أتى به للتوطئة ، أو للتقييد أظهرهما الثاني ؛ فإن كان للتوطئة لا للتقييد فيكون ذكره على سبيل الغلبة لأن الإنسان أكثر ما يتزوج الحرائر ، ويصير لفظ الزوج كالملغى ، فيكون في ذلك دلالة على أن الأمة إذا بتّ طلاقها ووطئها سيدها حلّ للأول نكاحها ، إذ لفظ الزوج ليس بقيد ؛ وإن كان للتقييد ، وهو الظاهر ، فلا يحللها وطء سيدها .

والفاء في : فلا جناح ، جواب الشرط قبله ، وعليهما ، في موضع الخبر ، أما المجموع : جناح ، إذ هو مبتدأ على رأي سيبويه ، وإما على أنه خبر : لا ، على مذهب أبي الحسن ، و : أن يتراجعا ، أي : في أن يتراجعا ، والخلاف بعد حذف : في ، أبقى : أن ، مع ما بعدها في موضع نصب ، أم في موضع جر ، تقدم لنا ذكره ، و : أن يقيما ، في موضع المفعولين سد مسدهما لجريان المسند والمسند إليه في هذا الكلام على مذهب سيبويه ، والمفعول الثاني محذوف على مذهب أبي الحسن ، وأبي العباس .

{ وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } تلك : مبتدأ ، و : حدود خبر ، و : يبينها يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، أي مبينة ، والعامل فيها اسم الإشارة ، وذو الحال : حدود الله ، كقوله تعالى : { فتلك بيوتهم خاوية } و : لقوم ، متعلق : بيبينها ، و : تلك ، إشارة إلى ما تقدم من الأحكام ، وقرئ : نبينها ، بالنون على طريق الالتفات ، وهي قراءة تروى عن عاصم .

ومعنى التبين هنا : الإيضاح ، وخصّ المبين لهم بالعلم تشريفاً لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بما بين الله تعالى من نصب دليل على ذلك من قول أو فعل ، وإن كان التبين بمعنى خلق البيان ، فلا بد من تخصيص المبين لهم الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لا يخلق في قلبه التبيين .

/خ230