البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ بَلۡ أَلۡقُواْۖ فَإِذَا حِبَالُهُمۡ وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ} (66)

التخييل : إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم .

قال الشاعر :

ألا يا لقومي للخيال المشوق*** وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي

{ قال بل ألقوا } لا يكون الأمر بالإلقاء من باب تجويز السحر والأمر به لأن الغرض في ذلك الفرق بين إلقائهم والمعجزة ، وتعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة إذ الأمر مقرون بشرط أي ألقوا إن كنتم محقين لقوله { فأتوا بسورة من مثله } ثم قال { إن كنتم صادقين } وفي الكلام حذف تقديره فألقوا فإذا .

قال أبو البقاء : { فإذا حبالهم } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان ، والعامل فيه ألقوا انتهى .

فقوله { فإذا } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا ليست هذه فاء جواب لأن فألقوا لا تجاب ، وإنما هي للعطف عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف .

وقوله وإذا في هذا ظرف مكان يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكان وهو مذهب المبرد وظاهر كلام سيبويه ، وقوله : والعامل فيه ألقوا ليس بشيء لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو { حبالهم وعصيهم } إن لم يجعلها هي في موضع الخبر ، لأنه يجوز أن يكون الخبر يخيل ، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال ، وهذا نظير : خرجت فإذا الأسد رابض ورابضاً فإذا رفعنا رابضاً كانت إذا معمولة ، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان ، وإذا نصبتا كانت خبراً ولذلك تكتفي بها ، وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد .

وقال الزمخشري : يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى { فإذا حبالهم وعصيهم } ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم ، وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى .

فقوله : والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب الرياشي أن إذا الفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح ، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضاً وقوله الطالبة ناصباً لها صحيح ، وقوله : وجملة تضاف إليها هذا عند أصحابنا ليس بصحيح لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ وإما معمولة لخبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض لجملة أو معمولة لبعضها ، فلا تمكن الإضافة .

وقوله خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها ، وقوله والجملة ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية تقول : خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك سأله الاشتغال خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو ، برفع زيد ونصبه ، وأما قوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدّر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه .

فإذا قلت : خرجت فإذا السبع ، فالمعنى أنه فاجأني السبع وهجم ظهوره .

وقرأ الحسن وعيسى عُصِيَهُم بضم العين حيث كان وهو الأصل لأن الكسر اتباع لحركة الصاد وحركة الصاد لأجل الياء .

وفي كتاب اللوامح الحسن وعُصْيهم بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع فهو أيضاً جمع كالعامّة لكنه على فعل .

وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح والوليدان وابن ذكوان تخيل بالتاء مبنياً للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي و { أنها تسعى } بدل اشتمال من ذلك الضمير .

وقرأ أبو السماك تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيها أيضاً ضمير ما ذكر و { أنها تسعى } بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى .

وقال ابن عطية : إنها مفعول من أجله .

وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل ، و { أنها تسعى } في موضع نصب على المفعول به .

ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن والثقفي يعني عيسى ، ومن بنى تخيل للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله للمحنة والابتلاء وروى الحسن بن أيمن عن أبي حيوة نخيل بالنون وكسر الياء ، فالمخيل لهم ذلك هو الله والضمير في { إليه } الظاهر أنه يعود على موسى لقوله قبل { قال بل ألقوا } ولقوله بعد { فأوجس في نفسه خيفة موسى } وقيل : يعود على فرعون ، والظاهر من القصص أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل الانتقال الذي يشبه انتقال من قامت به الحياة ، ولذلك ذكر السعي وهو وصف من يمشي من الحيوان ، فروى أنهم جعلوا في الحبال زئبقاً وألقوها في الشمس فأصاب الزئبق حرارة الشمس فتحرك فتحركت العصي والحبال معه .

وقيل : حفروا الأرض وجعلوا تحتها ناراً وكانت العصي والحبال مملوءة بزئبق ، فلما أصابتها حرارة الأرض تحركت وكان هذا من باب الدّرك .

وقيل : إنها لم تتحرك وكان ذلك من سحر العيون وقد صرح تعالى بهذا فقالوا { سحروا أعين الناس } فكان الناظر يخيل إليه أنها تنتقل .

وتقدم شرح أوجس .

وقال الزمخشري : كان ذلك لطبع الجبلة البشرية وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله وهو قول الحسن .