ثم إن موسى -عليه السلام{[25386]}- قابل أدبهم بأدب فقال : " بَلْ أَلْقُوا " .
فإن قيل : كيف يجوز أن يقول موسى " بَلْ أَلْقُوا " فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى -عليه السلام{[25387]}- كان كفراً ؟
الأول : لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ، لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهروا{[25388]} ، الفرق بين ذلك{[25389]} الإلقاء وبين معجزة موسى -عليه السلام{[25390]}- ( كان ذلك الإلقاء إيماناً إنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى -عليه السلام- ، وهو عليه السلام ){[25391]} إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب{[25392]} فزال السؤال .
والثاني : ذلك الأمر كان مشروطاً ، والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين ، كقوله تعالى{[25393]} : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }{[25394]} ( أي : إن كنتم قادرين ){[25395]} .
الثالث : أنه لما تعيَّن ذلك{[25396]} طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً ، وهذا كالمحقق إذا علم في أن قلب واحد شبهة ، وأنه لو لم يطالبه{[25397]} وتقريرها{[25398]} بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه{[25399]} ويخرج بسببها عن الدين ، فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ، ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ، ويزيل أثرها عن قلبه ، فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض جائز فكذا ههنا .
الرابع : أن لا يكون ذلك أمراً بل معناه : إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حسًّا{[25400]} لكي ينكشف الحق{[25401]} .
الخامس : أن موسى -عليه السلام{[25402]}- لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاكم عن ذلك بقوله : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ }{[25403]} وإذا كان كذلك استحال أن يأمرهم بذلك ، لأن الجمع بين كونه ناهياً آمراً بالفعل الواحد محال ، فعلمنا أن أمره غير محمول على ظاهره ، وحينئذ يزول الإشكال . فإن قيل : لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم إسماع الشبهة على إسماع الحجة غير جائز ، فكذا تقديم إرائة الشبهة على إرائة الحجة{[25404]} يجب أن لا يجوز ، لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة{[25405]} ثم لا يتفرغ لإدراك{[25386]} الحجة بعده ، فيبقى حينئذ في الكفر والضلال ، وليس لأحد أن يقول : إن ذلك كان{[25407]} بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو -عليه السلام{[25408]}- قابل ذلك بأن قدمهم ، لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز .
فالجواب أنه -عليه السلام{[25409]}- كان قد أظهر المعجزة مرةً واحدةً فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى ، والقوم{[25410]} إنما جاءوا لمعارضته ، فقال -عليه السلام{[25411]}- لو أظهرت{[25412]} المعجزة أولاً لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهو لا يجوز ، ولكنني{[25413]} أفوض الأمر إليهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ، ثم أظهر أنا{[25414]} ذلك المعجز الذي يبطل سحرهم ، فيكون هذا التقديم{[25415]} سبباً لدفع الشبهة فكان أولى{[25416]} .
قوله : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ } هذه الفاء عاطفة على ( جملة محذوفة دل عليها السياق ، والتقدير : فَألْقُوا فَإذَا{[25417]} ، وإذا هي التي للمفاجأة وفيها ثلاثة أقوال تقدمت :
أحدها : أنها باقية على ظرفية الزمان{[25418]} .
الثاني : أنها ظرف مكان{[25419]} .
الثالث : أنها حرف{[25420]} .
قال الزمخشري : والتحقيق فيها أنها الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها ، وجملة تضاف إليها ، خصت في بعض المواضع بأن يكون الناصب لها فعلاً مخصوصاً ، وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير ، فتقدير قوله : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } ففَاجأ موسى وقتَ تخييل سَعْي حِبَالهم وعصيّهم ، وهذا تمثيل ، والمعنى : على مفاجأته حبالهم وعصيّهم مخيِّلةً إليه السعي{[25421]} .
قال أبو حيان : قوله : إنها زمانية قول مرجوح ، وهو مذهب الرياشي .
وقوله : الطالبة ناصباً لها صحيح . وقوله : وجملة تضاف إليها ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا ، لأنها إما أن تكون معمولة لخبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة ، لأنها إما أن تكون بعض الجملة أو معمولة لبعضها ، فلا يمكن الإضافة .
وقوله : خصت في بعض المواضع إلى آخره . قد بيَّنا الناصبَ لها . وقوله : والجملة بعدها ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح ، بل جوَّز الأخفش على أن الجملة الفعلية المقترنة بقد تقع بعدها نحو خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك مسألة الاشتغال نحو : خرجتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمرو ، برفع زيد ونصبه على الاشتغال{[25422]} .
وقوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيَّلةً إليه السعي ، فهذا عكس ما قدر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيِّهم إياه . فإذا قلت : خرجت فإذا السبع ، فالمعنى : أنه فاجأني وهجم ظهوره{[25423]} . انتهى .
قال شهاب الدين : وما ردَّ به غير لازم له ، لأنه ردَّ عليه بقول بعض النحاة ، وهو يلزم ذلك القول حتى يرد به عليه لا سيما إذا كان المشهور غيره ومقصوده تفسير المعنى{[25424]} . وقال أبو البقاء : الفاء جواب ما حذف وتقديره : فألقوا فإذا ، ف " إذا " في هذا ظرف مكان العامل فيه " ألْقُوا " {[25425]} . وفي هذا نظر . ، لأن " أَلْقُوا " هذا المقدر لا يطلب جواباً حتى يقول : الفاء جوابه ، بل كان ينبغي أن يقول : الفاء عاطفة هذه الجملة الفجائية على جملة أخرى مقدرة ، وقوله : ظرف مكان هذا مذهب المبرد ، وظاهر قول سيبويه أيضاً وإن كان المشهور بقاؤها على الزمان وقوله : إن العامل فيها " فَألْقُوا " لا يجوز لأن الفاء تمنع من ذلك . هذا كلام أبي حيان{[25426]} . ثم قال بعده : ولأن " إذا " هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو حبالهم وعصيهم إن لم يجعلها هي في موضع الخبر ، لأنه يجوز أن يكون ){[25427]} الخبر " يخيّل " ، ويجوز أن تكون " إذا " و " يخيّل " في موضع الحال ، وهذا نظير : خرجت فإن الأسد رابضٌ ورابضاً{[25428]} ، وإذا رفعت رابضاً{[25429]} كانت إذا معمولة{[25430]} له والتقدير : فبالحضرة الأسد رابض ، أو في المكان ، وإذا نصبت كان " إذا " خبراً ، ولذلك يكتفي بها وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد{[25431]} .
قوله : { يُخَيَّل إلَيْهِ }{[25432]} قرأ{[25433]} العامة " يُخَيَّل " بضم الياء الأولى وفتح الثانية مبنيًّا للمفعول ، و " أنَّهَا تَسْعَى " مرفوع{[25434]} بالفعل قبله لقيامه مقام الفاعل تقديره : يُخَيَّل إليه سعيُهَا{[25435]} .
وجوز أبو البقاء فيه{[25436]} وجهين{[25437]} :
أحدهما{[25438]} : ( أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير الحباِل والعِصِيّ وإنما ذكَّر ولم يقل " تُخَيَّلُ " بالتاء من فوق ، لأن تأنيث الحبال غير حقيقي .
الثاني : أن القائم مقام الفاعل ضمير يعود على الملقي ، فلذلك ذكر . وعلى الوجهين : ففي قوله : { أنَّهَا تَسْعَى } وجهان أحدهما ){[25439]} : أنه بدل اشتمال من ذلك الضمير المستتر " يخيّل " والثاني : أنه مصدر في موضع نصب{[25440]} على الحال من الضمير المستتر أيضاً ، والمعنى : يُخَيَّل إليه هي أنها ذات سعي{[25441]} . ولا حاجة إلى هذا ، وأيضاً فقد نصوا على أن المصدر المؤول لا يقع موقع الحال ، لو قلت : جاء زيد أن رَكَض ، تريد ركضاً بمعنى ذا ركض لم يجز{[25442]} .
وقرأ ابن ذكوان : " تُخَيَّلُ " بالتاء من فوق{[25443]} ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الفعل مسند لضمير الجِبَال والعِصِيّ ، أي : تُخَيَّل الحبال ( والعصي ، و ){[25444]} " أنَّهَا تَسْعَى " بدل اشتمال من ذلك الضمير{[25445]} .
الثاني : كذلك إلا " أنَّهَا تَسْعَى " {[25446]} حال ، أي : ذات سَعْي كما تقدم تقريره قبل ذلك{[25447]} .
الثالث : أن الفعل مسند{[25448]} لقوله : { أنَّهَا{[25449]} تَسْعَى } كقراءة العامة في أحد الأوجه{[25450]} وإنما أنَّثَ الفعل لاكتساب المرفوع التأنيث{[25451]} بالإضافة ، إذ التقدير : تُخَيَّلُ إلَيْهِ سَعْيُهَا ، فهو{[25452]} كقوله :
شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ{[25453]} *** . . .
( " فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا " {[25454]} ){[25455]} .
وقرأ{[25456]} أبو السمال{[25457]} : " تَخَيَّلُ " بفتح التاء والياء مبنياً للفاعل ، والأصل : تَتَخَيَّلُ ، فحذف إحدى التاءين نحو " تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ " {[25458]} ، و " أَنَّهَا تَسْعَى " بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير{[25459]} .
وجوَّز ابن عطية أيضاً أنه مفعول من أجله{[25460]} . ونقل ابن جبارة{[25461]} الهذلي : قراءة أبي السمال : " تُخَيِّل " {[25462]} بضم التاء من فوق وكسر الياء{[25463]} ، فالفعل مسند لضمير الحبال ، و " أنَّهَا تَسْعَى " مفعول ، أي : تُخَيَّل الحبال سعيها{[25464]} .
ونسب ابن عطية هذه القراءة للحسن وعيسى الثقفي{[25465]} .
وقرأ أبو حيوة : " نُخَيِّل " بنون العظمة ، و " أنَّهَا تَسْعَى " مفعول به أيضاً على هذه القراءة{[25466]} .
وقرأ الحسن والثقفي " عُصيِّهم " بضم العين حيث وقع ، وهو الأصل{[25467]} ، وإنما كسرت العين إتباعاً ( للصاد ، وكسرت الصاد إتباعاً ){[25468]} للياء نحو دَلْو ودِلِيّ ، وقوس وقِسّيِ ، والأصل : عُصُوو ، بواوين فأًُعِلَّ كما ترى بقلب{[25469]} الواوين ياءين استثقالاً لهما ، فكسرت الصاد لتصح{[25470]} الياء ، وكسرت العين إتباعاً{[25471]} .
ونقل صاحب اللوامح : أنَّ قراءة الحسن " عُصِيُهُمْ " بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع{[25472]} ، وهو أيضاً جمع كالعامة إلا أنه على فُعْل ، والأول على{[25473]} فُعُول كفُلُوس{[25474]} .
والجملة من " تَخَيَّل " يحتمل أن تكون في محل رفع خبراً لهي{[25475]} على أن " إذا " الفجائية فضلة . وأن تكون في محل نصب على الحال على أن " إذا " الفجائية هي الخبر{[25476]} والضمير في " إِلَيْهِ " الظاهر عوده على موسى . وقيل يعود على ( فِرْعَون ){[25477]} ( ويدل للأول ){[25478]} قوله تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى{[25479]} } {[25480]} .
وفيه إضمار أي : فألقوا فإذا حبالُهُم وعِصِيُّهم ، جمع حبل وعصا{[25481]} .
قال ابن عباس : أَلْقَوا حِبَالَهُمْ و َعِصيَّهُم وأخذوا أعين الناس فرأى موسى{[25482]} والقوم كأن{[25483]} الأرض امتلأت حيَّات وكانت أخذت مَيْلاً من كل جانب ، وأنها تسعى فخاف ،و { أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً }