البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (8)

{ ووصينا الإنسان } ، في جامع الترمذي : إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، آلت أمه أن لا يطعم ولا يشرب حتى تموت ، أو يكفر .

وقيل : في عياش بن أبي ربيعة ، أسلم وهاجر مع عمر ، وكانت أمه شديدة الحب له ، وحلفت على مثل ذلك ، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث ، فشداه وثاقاً حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصداً ليراها ، وجلده كل منهما مائة جلدة ، ورداه إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد ، في حديث طويل ذكر في السير .

{ ووصينا الإنسان بوالديه } : أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما .

وانتصب { حسناً } على أنه مصدر ، وصف به مصدر وصينا ، أي إيصاء حسناً ، أي ذا حسن ، أو على سبيل المبالغة ، أي هو في ذاته حسن .

قال ابن عطية : يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تحريض على كونه عاماً لمعان .

كما تقول : وصيتك خيراً ، وأوصيتك شراً ؛ وعبَّر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف الجر ، كون حرف الجر في قوله : { بوالديه } ، لأن المعنى : ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده ، ونظير هذا قول الشاعر :

عجبت من دهماء إذ تشكونا *** ومن أبي دهماء إذ يوصينا

انتهى .

مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة :

وصيت من برة قلباً حراً *** بالكلب خيراً والحماة شراً

وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير ، وهو المفعول الثاني .

والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في ، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله : { بوالديه } ، وينتصب { حسناً } بفعل مضمر تقديره : يحسن حسناً ، وينتصب انتصاب المصدر .

وفي التحرير : حسناً نصب عند البصريين على التكرير ، أي وصيناه حسناً ، وقيل : على القطع ، تقديره : ووصينا بالحسن ، كما تقول : وصيته خيراً ، أي بالخير ، ويعني بالقطع عن حرف الجر ، فانتصب .

وقال أهل الكوفة : ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فيقدر له فعل . انتهى .

وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول ، وهو لا يجوز عند البصريين .

وقال الزمخشري : وصيناه بايتاء والديه حسناً ، أو نائلاً والديه حسناً ، أي فعلاً ذا حسن ، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله : { وقولوا للناس حسناً } انتهى .

وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عند البصريين .

قال الزمخشري : ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك : زيداً ، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما ، لأن الوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، فكأنه قال : قلنا أولهما معروفاً .

وقرأ عيسى ، والجحدري : حسناً ، بفتحتين ؛ والجمهور : بضم الحاء وإسكان السين ، وهما كالبَخَل والبُخْل .

وقال أبو الفضل الرازي : وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة ، لأنها قد أخذت مفعوليها معاً مطلقاً ومجروراً ، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى : أمر حسن .

انتهى ، أي أمراً حسناً ، حذف أمراً وأقيم حسن مقامه .

وقوله : مطلقاً ، عنى به الإنسان ، وفيه تسامح ، بل هو مفعول به ؛ والمطلق إنما هو المصدر ، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر ، بخلاف سائر المفاعيل ، فإنك تقول : مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول معه ، ومفعول له ؛ وفي مصحف أبي : إحساناً .

{ وإن جاهداك } : أي وقلنا : إن جاهداك { ما ليس لك به علم } : أي بإلهيته ، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، أي { لتشرك } به شيئاً ، لا يصح أن يكون إلهاً ولا يستقيم ، { فلا تطعهما } فيما جاهداك عليه من الإشراك ؛ { إليّ مرجعكم } : شامل للموصي والموصى والمجاهد والمجاهد ، { فأنبئكم } : فأجازيكم ، { بماكنتم تعملون } : من بر ، أو عقوق ، أو طاعة ، أو عصيان .