البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس { وزاغت الأبصار } وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال ومال يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلاَّ فيما كان من حق إلى باطل .

التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب .

وقال غيره : التأويل المرد والمرجع .

قال :

أؤول الحكم على وجهه *** ليس قضاي بالهوى الجائر

الرسوخ : الثبوت .

قال :

لقد رسخت في القلب منّي مودة *** لليلى أبت أيامها أن تغيّرا

{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات } مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني .

وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله { وروح منه } فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوهاً .

ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه .

وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملاً ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : { كتاباً متشابهاً } معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق .

وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : { إن البقر تشابه علينا } { وأتوا به متشابهاً } أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما .

ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما .

والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين .

قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ .

وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه .

وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً .

وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت .

وقال جابر بن عبد الله ، وابن دئاب ، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى .

وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة .

وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط .

وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف .

وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال .

وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ؛ والمتشابه : القصص والأمثال .

وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال .

والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان .

وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : { فإذا هي حية تسعى } { فإذا هي ثعبان مبين } و { قلنا احمل } و { فاسلك }

وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر .

وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول .

وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم وآلمرَ ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : ألر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم .

أو : ما اشتبه من النصارى من قوله : { وروح منه }

وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء .

وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : { قل تعالوا أتل } الآيات و { قضى ربك } الآيات وما سوى المحكم متشابه .

وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك .

وقال بن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام .

وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل .

وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا .

ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين { وأن تجمعوا بين الاختين إلاَّ ما قد سلف } يمنع من ذلك ؟

ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل .

وقال يحي بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان .

وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } أي كل واحد منهم .

قيل : ويحتمل أن أفراد في موضع الجمع .

نحو : { وعلى سمعهم } وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها .

ومثال ذلك : { لا تدركه الأبصار } { إلى ربها ناظرة } { لا يأمر بالفحشاء } { أمرنا مترفيها } انتهى .

وهذا على مذهبه الإعتزالي في أن الله لا يُرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار .

والمتشابه قوله : { إلى ربها ناظرة }

وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرّؤية .

وذكر من المحكم : { وما كان ربك نسيا } { لا يضل ربي ولا ينسى } ومتشابهه : { نسوا الله فنسيهم } ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك .

وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه .

فقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } عند المعتزلة محكم { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } متشابه .

وغيرهم بالعكس .

وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظياً فلا يتم إلاَّ بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصاً أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية .

فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل .

ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه ، وقال : يقولون ، ان تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } { وفي آذانهم وقرا } والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } وفي موضع آخر : { وقالوا قلوبنا غلف }

ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : { إلى ربها ناظرة } والآخرون ، بقوله : { لا تدركه الأبصار } ومثبتو الجهة بقوله : { يخافون ربهم من فوقهم } وبقوله : { على العرش استوى } والآخرون بقوله : { ليس كمثله شيء } فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا ؟ انتهى كلام الفخر الرازي .

وبعضه ملخص .

وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري .

قال :

فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً ؟

قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلاَّ به ، ولما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في إستخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابة المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في اتقانه .

إنتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن .

ولما ذكر تعالى أول السورة { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه .

وقوله : { منه آيات محكمات } إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الابتداء ، والجملة حالية .

ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : { وأخر متشابهات } فأُخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل .

وتقدم الكلام على أخر في قوله : { فعدة من أيام أُخر } فاغنى عن إعادته هنا .

وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبوية ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي .

{ فأما الذين في قلوبهم زيغ } هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع .

أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم .

وقال الطبري : هو الأشبه .

وذكر محاورة حيي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا .

فأنزل الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم .

وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلاَّ يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق .

وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية ، وهم الخوارج .

ومن تأول آية لا في محلها .

وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدرى من هم .

وقال ابن جريح : هم المنافقون .

وقيل : هم جميع المبتدعة .

وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ .

{ فيتبعون ما تشابه منه } قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع .

وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : { ولا تساءلون } و { أقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثاً } { والله ربنا ما كنا مشركين } ونحو ذلك .

وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه .

انتهى كلامه ملخصاً .

{ إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } علل اتباعهم للمتشابه بعلتين :

إحداهما : إبتغاء الفتنة .

قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر .

وقال مجاهد : الشبهات واللبس .

وقال الزجاج : إفساد ذات البين .

وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران .

والعلة الثانية : إبتغاء التأويل .

قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى الله عليه وسلم .

وقيل : التأويل : التفسير ، نحو { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة .

وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل .

وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء .

وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه .

وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف ؟

وقال الزمخشري : { الذين في قلوبهم زيغ } هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قوله أهل الحق ، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه .

انتهى كلامه .

وهو كلام حسن .

{ وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } تم الكلام عند قوله : إلا الله ، ومعناه ان الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، والجلبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد .

واختاره : الخطابي والفخر الرازي .

ويكون قوله { والراسخون } مبتدأ و { يقولون } خبر عنه وقيل : والراسخون ، معطوف على الله ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين .

ورجح الأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا { آمنا به } ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : الله ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون ، فيكون حالاً من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر .

ولأن قوله : { كل من عند ربنا } يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله ، تعالى .

وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به .

وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند الله ، والراسخون في العلم يقولون .

ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك .

وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص .

ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب .

وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوى فيه الراسخ وغيره .

والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك .

ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى

{ وروح منه } إلى غير ذلك .

ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ .

فقوله { إلا الله } مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب .

ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط .

وإن جعلنا { والراسخون } مبتدأ مقطعوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ؟ .

وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما .

ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه . انتهى .

وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : الله ، وإياه اختار الزمخشري .

قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع .

ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه .

انتهى كلامه .

وتلخص في إعراب { والراسخون } وجهان : .

أحدهما : أنه معطوف على قوله : الله ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف .

والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة .

والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبراً عنه ، ويكون من عطف الجمل .

وقيل : { الراسخون في العلم } مؤمنو أهل الكتاب : كعبد الله بن سلام وأصحابه ، بدليل { لكن الراسخون في العلم منهم } يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع .

{ كل من عند ربنا } هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله : { آمنا به كل من عند ربنا } وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله :

كيف أصحبت ؟ كيف أمسيت ؟ مما *** يزرع الود في فؤاد الكريم ؟

كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ .

والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب .

والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به .

وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكماً .

{ وما يتذكر إلا أولوا الألباب } أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزاً لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل .

وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلاَّ ذو لبٍّ .

وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل .

/خ11