الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس { وزاغت الأبصار } وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال ومال يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلاَّ فيما كان من حق إلى باطل .
التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب .
وقال غيره : التأويل المرد والمرجع .
أؤول الحكم على وجهه *** ليس قضاي بالهوى الجائر
لقد رسخت في القلب منّي مودة *** لليلى أبت أيامها أن تغيّرا
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات } مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني .
وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله { وروح منه } فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوهاً .
ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه .
وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملاً ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : { كتاباً متشابهاً } معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق .
وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : { إن البقر تشابه علينا } { وأتوا به متشابهاً } أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما .
ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما .
والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين .
قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ .
وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه .
وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً .
وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت .
وقال جابر بن عبد الله ، وابن دئاب ، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى .
وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة .
وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط .
وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف .
وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال .
وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ؛ والمتشابه : القصص والأمثال .
وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال .
والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان .
وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : { فإذا هي حية تسعى } { فإذا هي ثعبان مبين } و { قلنا احمل } و { فاسلك }
وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر .
وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول .
وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم وآلمرَ ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : ألر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم .
أو : ما اشتبه من النصارى من قوله : { وروح منه }
وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء .
وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : { قل تعالوا أتل } الآيات و { قضى ربك } الآيات وما سوى المحكم متشابه .
وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك .
وقال بن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام .
وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل .
وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا .
ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين { وأن تجمعوا بين الاختين إلاَّ ما قد سلف } يمنع من ذلك ؟
ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل .
وقال يحي بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان .
وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } أي كل واحد منهم .
قيل : ويحتمل أن أفراد في موضع الجمع .
نحو : { وعلى سمعهم } وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها .
ومثال ذلك : { لا تدركه الأبصار } { إلى ربها ناظرة } { لا يأمر بالفحشاء } { أمرنا مترفيها } انتهى .
وهذا على مذهبه الإعتزالي في أن الله لا يُرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار .
والمتشابه قوله : { إلى ربها ناظرة }
وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرّؤية .
وذكر من المحكم : { وما كان ربك نسيا } { لا يضل ربي ولا ينسى } ومتشابهه : { نسوا الله فنسيهم } ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك .
وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه .
فقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } عند المعتزلة محكم { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } متشابه .
وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظياً فلا يتم إلاَّ بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصاً أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية .
فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل .
ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه ، وقال : يقولون ، ان تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } { وفي آذانهم وقرا } والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } وفي موضع آخر : { وقالوا قلوبنا غلف }
ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : { إلى ربها ناظرة } والآخرون ، بقوله : { لا تدركه الأبصار } ومثبتو الجهة بقوله : { يخافون ربهم من فوقهم } وبقوله : { على العرش استوى } والآخرون بقوله : { ليس كمثله شيء } فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا ؟ انتهى كلام الفخر الرازي .
وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري .
فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً ؟
قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلاَّ به ، ولما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في إستخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابة المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في اتقانه .
إنتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن .
ولما ذكر تعالى أول السورة { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه .
وقوله : { منه آيات محكمات } إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الابتداء ، والجملة حالية .
ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : { وأخر متشابهات } فأُخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل .
وتقدم الكلام على أخر في قوله : { فعدة من أيام أُخر } فاغنى عن إعادته هنا .
وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبوية ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي .
{ فأما الذين في قلوبهم زيغ } هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع .
أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم .
وذكر محاورة حيي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا .
فأنزل الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم .
وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلاَّ يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق .
وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية ، وهم الخوارج .
وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدرى من هم .
وقال ابن جريح : هم المنافقون .
وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ .
{ فيتبعون ما تشابه منه } قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع .
وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : { ولا تساءلون } و { أقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثاً } { والله ربنا ما كنا مشركين } ونحو ذلك .
وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه .
{ إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } علل اتباعهم للمتشابه بعلتين :
قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر .
وقال الزجاج : إفساد ذات البين .
وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران .
والعلة الثانية : إبتغاء التأويل .
قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : التأويل : التفسير ، نحو { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة .
وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل .
وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء .
وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه .
وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف ؟
وقال الزمخشري : { الذين في قلوبهم زيغ } هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قوله أهل الحق ، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه .
{ وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } تم الكلام عند قوله : إلا الله ، ومعناه ان الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، والجلبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد .
واختاره : الخطابي والفخر الرازي .
ويكون قوله { والراسخون } مبتدأ و { يقولون } خبر عنه وقيل : والراسخون ، معطوف على الله ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين .
ورجح الأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا { آمنا به } ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : الله ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون ، فيكون حالاً من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر .
ولأن قوله : { كل من عند ربنا } يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله ، تعالى .
وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به .
وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند الله ، والراسخون في العلم يقولون .
ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك .
وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص .
ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب .
وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوى فيه الراسخ وغيره .
والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك .
ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى
ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ .
فقوله { إلا الله } مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب .
ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط .
وإن جعلنا { والراسخون } مبتدأ مقطعوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ؟ .
وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما .
ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه . انتهى .
وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : الله ، وإياه اختار الزمخشري .
قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع .
ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه .
وتلخص في إعراب { والراسخون } وجهان : .
أحدهما : أنه معطوف على قوله : الله ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف .
والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة .
والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبراً عنه ، ويكون من عطف الجمل .
وقيل : { الراسخون في العلم } مؤمنو أهل الكتاب : كعبد الله بن سلام وأصحابه ، بدليل { لكن الراسخون في العلم منهم } يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع .
{ كل من عند ربنا } هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله : { آمنا به كل من عند ربنا } وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله :
كيف أصحبت ؟ كيف أمسيت ؟ مما *** يزرع الود في فؤاد الكريم ؟
كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ .
والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب .
والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به .
وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكماً .
{ وما يتذكر إلا أولوا الألباب } أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزاً لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل .
وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلاَّ ذو لبٍّ .