البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة .

كما قالوا : لحياني ، وشعراني ، ورقباني .

فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة .

وقال قوم : هو منسوب إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في : غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا : أحمري في أحمر ، و : دواري في دّوار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه .

درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عافٍ .

{ ما كان لبشر أن يأتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } « روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، حين اجتمت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد ! إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى ؟ فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت « ، فنزلت .

وقيل : » قال رجل : يا رسول الله ! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : « لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله » واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : { ما كان لبشر } فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكروا سبب النزول المذكور .

وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله } وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين .

أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله :

{ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله }

والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أن الله لا يعطي الكَذَبة والمدَّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام .

والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : « إن من الشعر لحكماً » .

وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس .

أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم .

{ كونوا عباداً لي من دون الله } عباداً جمع عبد .

قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّي .

قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى .

وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر .

وقال قوم : العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية .

والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } { وعباد مكرمون } { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إن تعذبهم فانهم عبادك }

وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرىء القيس :

قولاً لدودان عبيد العصا *** ما غركم بالأسد الباسل

ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي ، ومنه { وما ربك بظلام للعبيد } لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } اعبدوني واجعلوني إلهاً .

انتهى كلام ابن عطية .

وفيه بعض مناقشة .

أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدى ، أما عبيد فالأصح أنه جمع .

وقيل : اسم جمع ، و : أما عبدى فاسم جمع ، وألفه للتأنيث .

وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت أمرىء القيس ، وقول حمزة وقوله تعالى

{ بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } الباء للسبب ، و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، و : تعلمون ، متعدٍ لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرأوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدّى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب .

وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى .

وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء والعين واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما .

وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء .

وروي عنه : تدرّسون ، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية .

وقرئ : تدرسون ، منن أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم ، و : أنزل نزّل ، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه وكدر وجه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضاً ، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلاَّ للمتمسكين بطاعته .

انتهى كلامه .

وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه : لا يكون مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان .

/خ82