البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

{ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف } قال ابن عطية فيما لخصناه من كلامه ، هذا إخبار عن أشياء واقعوها في الضد مما أخذوا به ، نقضوا الميثاق الذي رفع عليهم الطور بسببه ، وجعلوا بدل الإيمان الذي تضمنه الأمر بدخول الباب سجداً المتضمن التواضع الذي هو ثمرة الإيمان ، كفرهم بآيات الله ، وبذل الطاعة ، وامتثال موافقته ، في أن لا يعدوا في السبت انتهاك أعظم الحرم ، وهو قتل الأنبياء ، وقابلوا أخذ الميثاق الغليظ بتجاهلهم وقولهم : قلوبنا غلف : أي : في حجب ، وغلف : فهي لا تفهم .

وأضرب الله تعالى عن قولهم وكذبهم ، وأخبر تعالى أنه قد طبع عليها بسبب كفرهم انتهى .

والميثاق المنقوض : أهو كتمانهم صفة الرسول وتكذيبه فيما جاء به ؟ أو تركهم العمل بما في كتابهم ؟ مع أنهم قبلوا والتزموا العمل بها قولان .

وآيات الله التي كفروا بها أهي التي أنزلت عليهم في كتبهم ؟ أو جميع كتب الله المنزلة ؟ قولان .

وتقدم شرح قلوبنا غلف في البقرة .

{ بل طبع الله عليها بكفرهم } أدغم لام بل في طاء طبع الكسائي وحمزة ، وأظهرها باقي السبعة .

وقال الزجاج : بل طبع الله عليها بكفرهم خبر معناه الذم ، على أنَّ قلوبهم بمنزلة المطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرسلاً .

وقال الزمخشري : أرادوا بقولهم : قلوبنا غلف ، أي أن الله خلق قلوبنا غلفاً ، أي : في أكنة لا يتوصل إليها بشيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } وتكذيب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم : خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة الذكر ، ولا متمكنة من قبوله انتهى .

وهو على مذهبه الاعتزالي .

وأما أهل السنة فيقولون : إن الله طبع عليها حقيقة كما أخبر تعالى إذ لا خالق غيره .

والباء في فبما نقضهم تتعلق بمحذوف قدره الزمخشري : فعلنا بهم ما فعلناه .

وقدره ابن عطية : لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم .

قال ابن عطية : وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع انتهى .

وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو ، ولا تساعده اللغة ، لأنه ليس بجواب .

وجوزوا أن يتعلق بقوله : { حرمنا عليهم } على أن قوله : { فبظلم من الذين هادوا } بدل من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ، وقاله الزجاج ، وأبو بكر ، والزمخشري ، وغيرهم .

وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب ، فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو مسبباً إلا بتأويل بعيد وبيان ذلك أن قولهم على مريم بهتاناً عظيماً ، وقولهم : إنا قتلنا المسيح ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، فالأولى أن يكون التقدير : لعناهم ، وقد جاء مصرحاً به في قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } { فلا يؤمنون إلا قليلاً } تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته .

/خ159