البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم } قال أبو أمية الشعباني : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال : لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم » .

وهذا أصح ما يقال في تأويل هذه الآية لأنه عن الرسول وعليه الصحابة بلغ أبا بكر الصديق أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس لا تغتروا بقول الله : { عليكم أنفسكم } فيقول أحدكم : عليّ نفسي فوالله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم وليسوا منكم سوء العذاب ، وعن عمر أن رجلاً قال له : إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال : وما هما قال لا آمر ولا أنهى ، فقال له عمر لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك ، وعن ابن مسعود ليس هذا زمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا :

« ليبلغ الشاهد منكم الغائب » ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل .

وقال ابن جبير { عليكم أنفسكم } فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر { ولا يضركم من ضلّ } من أهل الكتاب { إذا اهتديتم } ، وقال ابن زيد المعنى { يا أيها الذين آمنوا } من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب { عليكم أنفسكم } في الاستقامة على الدين { لا يضركم } ضلال الأسلاف { إذا اهتديتم } ، قال وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار : سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك ، وقيل : نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي السرح وغيره ، وقال المهدوي قيل إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن عطية لم يقل أحد فيما علمت أنها آية الموادعة للكفار ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، وقال الزمخشري كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتوّ من الكفرة ويتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي في طرق الهدى ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال تعالى لنبيه : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ مع تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد .

وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه ، وروى أبو صالح عن ابن عباس أن منافقي مكة قالوا : عجباً لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية فهلا أكلاههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب فشق ذلك على المسلمين فنزلت ، وقال مقاتل ما يقارب هذا القول ، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف ثم قيل { ما على الرسول إلا البلاغ } إلى قوله : { وإذا قيل لهم تعالوا } الآية .

كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدّم من المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرّين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإن ذلك لا يضركم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ، و { عليكم } : من كلم الإغراء وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً و { عليكم } : اسم لقولك الزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم ، وإذا كان المغرى به مخاطباً جاز أن يؤتى بالضمير منفصلاً فتقول عليك إياك أو يؤتى بالنفس بدل الضمير فتقول عليك نفسك كما في هذه الآية ، وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ { عليكم أنفسكم } بالرفع وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين : أحدهما يرتفع على أنه مبتدأ وعليكم في موضع الخبر والمعنى على الإغراء ، والوجه الثاني أن يكون توكيداً للضمير المستكن في { عليكم } ولم تؤكد بمضمر منفصل إذ قد جاء ذلك قليلاً ويكون مفعول { عليكم } محذوفاً لدلالة المعنى عليه والتقدير { عليكم أنفسكم } هدايتكم { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، وقرأ الجمهور { لا يضركم } بضم الضاد والراء وتشديدها ، قال الزمخشري : وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وينصره قراءة أبي حيوة { لا يضركم } وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل { لا يضركم } ويجوز أن يكون نهياً انتهى .

وقرأ الحسن بضم الضاد وسكون الراء من ضار يضور ، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير وهي لغات .

{ إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون } أي مرجع المهتدين والضالين وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تقومان وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة .