البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

الجزية : ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام ، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها .

أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل .

{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو الروم ، وغزا بعد نزولها تبوك .

وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم ، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، آذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني .

وقال الزجاج : لأنهم جعلوا له ولداً وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل .

وقال ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع مالهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذْ يلقونها من غير طريقها .

وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ، لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن الله وثالث ثلاثة ، وغير ذلك .

ولهم أيضاً في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان .

وقول اليهود في النار يكون فيها أياماً انتهى .

وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى .

والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في السنة .

وقيل : في التوراة والإنجيل ، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير .

وقيل : ولا يحرمون الكذب على الله ، قالوا : { نحن أبناء الله وأحباؤه } { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقيل : ما حرم الله من الربا وأموال الأميين ، والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن .

ولا يدينون دين الحق أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل .

وقيل : دين الحق دين الله ، والحق هو الله قاله : قتادة .

يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه ديناً ويعتقده .

وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع .

قال زهير :

لئن حللت بجوفي بني أسد *** في دين عمرو وحلت بيننا فدك

{ من الذين أوتوا الكتاب } بيان لقوله : الذين .

والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصاً .

وأجمع الناس على ذلك .

وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم انتهى .

وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب .

وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم .

وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا تؤكل ذبائحهم .

وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم .

وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل عابد وثن أو نارٍ أو جامدٍ مكذب .

وقال أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية .

وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائناً من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد .

وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط .

والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية .

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين .

وقال مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس .

واختلف في الشيخ الفاني ، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها .

فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهماً على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقاً وكسوة .

وقال الثوري : رويت عن عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم .

وقال الشافعي وغيره : على كل رأس دينار .

وقال أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهماً ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهماً ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له .

قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة .

وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير .

وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند الشافعي آخر السنة .

وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

نجزيك أو نثني عليك وأن من *** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أنْ يجزوه أي يقضوه عن يد .

قال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها .

وقال عثمان : يعطونها نقداً لا نسيئة .

وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم .

وقيل : عن اعتراف .

وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان أي الأمر له .

وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبولها منهم عوضاً عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم له : عليَّ يد أيْ : نعمة .

وقال القتبي : يقال أعطاه عن يدٍ وعن ظهر يد ، إذا أعطاه مبتدئاً غير مكافىء .

وقيل : عن يد عن جماعة أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله .

واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة أي : هم مجتمعون .

وقيل : عن يد أي عن غنى ، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير .

ولخص الزمخشري في ذلك فقال : أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم .

وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ، لأنّ من أبي وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب .

ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد أي نقداً غير نسيئة ، أولاً مبعوثاً على يد آخر ولكن عن يد المعطى البريد الآخذ .

وهم صاغرون جملة حالية أي : ذليلون حقيرون .

وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية .

قال ابن عباس : يمشون بها ملببين .

وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم .

وقال عكرمة : يكون قائماً والآخذ جالساً .

وقال الكلبي : يقال له عند دفعها أدّ الجزية ويصك في قفاه .

وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته .