البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

المضاهاة : المماثلة والمحاكاة ، وثقيف تقول : المضاهأة بالهمز ، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها ، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت : توضيت ، وقريت ، وأخطيت فيمكن .

وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفىء ، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة ، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث .

حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال : جمع بين علامتي تأنيث .

ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض ، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال .

فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين ، لأصالة همزة المضاهأة ، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث .

{ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنّ الشرك هو أنْ يتّخذ مع الله معبوداً ، بل عابد الوثن أخف كفراً من النصراني ، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم ، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد ، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة .

قال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم : سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف .

وقيل : قاله فنحاص .

وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا ، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم .

قيل : والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب ، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى ، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل فقال له : إلى أين تذهب ؟ قال : أطلب العلم ، فحفظه التوراة ، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً فقالوا : ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه ، ونقلوا حكايات في ذلك .

وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم : أنّ المسيح إله ، وأنه ابن الإله .

ويقال : إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة ، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّة المحمدية وظهور دلائل صدقها ، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم ، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى .

وقرأ عاصم ، والكسائي عزير منوناً على أنه عربي ، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كعاذر وغيذار وعزرائيل ، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر .

وقال أبو عبيد : هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود .

قيل : وليس قوله بمستقيم ، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر ، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر ، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر .

ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة : { قل هو الله أحد الله الصمد } وقول الشاعر :

إذا غطيف السلمى فرّا *** أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه ، والخبر محذوف أي : إلا هنا ومعبودنا .

فقوله متمحل ، لأنّ الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى .

ومعنى بأفواههم : أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان ، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير .

وقيل : معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد ، كما قال : { يكتبون الكتاب بأيديهم } { ولا طائر يطير بجناحيه } ولا بد من حذف مضاف في قوله : يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله ، وهو قول الضحاك .

أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي : يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير ، واليهود أقدم من النصارى ، وهو قول قتادة .

وقرأ عاصم وابن مصرف : يضاهئون بالهمز ، وباقي السبعة بغير همز .

قاتلهم الله أنى يؤفكون : دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومن قاتله الله فهو المقتول .

وقال ابن عباس : معناه لعنهم الله .

وقال ابان بن تغلب :

قاتلها الله تلحاني وقد علمت *** إني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وقال قتادة : قتلهم ، وذكر ابن الأنباري عاداهم .

وقال النقاش : أصل قاتل الدعاء ، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء .

وأنشد الأصمعي :

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني *** وأخبر الناس أني لا أباليها

وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص .

أنّى يؤفكون : كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجب ! .