يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مَغْرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة . وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فَسُلبَ جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا و لا مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا . فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ الأنبياء : 83 ] وفي هذه الآية الكريمة قال : رب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، قيل : بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي .
هذا مَثَل ثانٍ ذُكّر به النبي صلى الله عليه وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر ، وهو معطوف على { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } [ ص : 17 ] ولكونه مقصوداً بالمَثل أعيد معه فعل { اذْكُر } كما نبهنا عليه في قوله : { واذكر عبدنا داود } [ ص : 17 ] ، وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء . وترجمة أيوب عليه السلام تقدمت في سورة الأنعام .
وإذ كانت تعدية فعل { اذكر } إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله : { إذ نادى ربّه } بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب . وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه .
والنداء : نداء دُعاء لأن الدعاء يفتتح ب : يا رب ، ونحوه .
و { أنِّي مسَّنِي الشيطانُ } متعلق ب { نادى } بحذف الباء المحذوفة مع ( أن ) ، أي نادى : بأنّي مسني الشيطان ، وهو في الأصل جملة مبيّنة لجملة { نادى ربَّهُ } ولولا وجود ( أن ) المفتوحة التي تصيِّر الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة { نادى } ، ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدّى إليها فعل { نادى } وخاصة حيث خَلَت الجملة من حرف نداء . فقولهم : إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإِعراب تفرقة بين موقع ( أنَّ ) المفتوحة وموقع ( إنَّ ) المكسورة ولهذا الفرق بين الفتححِ والكسرِ اطّرد وجهَا فتححِ الهمزة وكسرِها في نحو « خيرُ القَول أني أحمد » .
وقد ذكرنا في قوله تعالى : { فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين في سورة } [ الأنفال : 9 ] رأينا في كون ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من ( أَنْ ) التفسيرية ( وأنَّ ) الناسخة . والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية ، كقوله : { رب إني وضعتها أنثى } [ آل عمران : 36 ] ، وقد قال في آية سورة [ الأنبياء : 83 ] { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } والنُصْب ، بضم النون وسكون الصاد : المشقة والتعب ، وهي لغة في نَصَب بفتحتين ، وتقدم النَصَب في سورة الكهف . وقرأ أبو جعفر { بِنُصُبٍ } بضم الصاد وهو ضم إتباع لضمّ النون .
والعذاب : الألم . والمراد به المرض يعني : أصابني الشيطان بتعَب وألم . وذلك من ضرّ حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى { أني مسني الضر } [ الأنبياء : 83 ] .
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما ، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب ، ففي سورةَ [ الأنبياء : 83 ] { أني مسني الضر } فأسند المسّ إلى الضر ، والضرّ هو النصب والعذاب . وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان ، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها .
وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله : { بِنُصبٍ } على أنها باء التعدية لتعدية فعل { مَسَّنِي } ، أو باء الآلة مثل : ضربه بالعصا ، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى .
والوجه عندي : أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه ، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب ، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك . أو تحمل البَاء على المصاحبة ، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب ، ففي قول أيوب { أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ } كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام : { وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين } [ يوسف : 33 ] .
وتنوين « نصب وعذاب » للتعظيم أو للنوعية ، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه} إذ قال لربه: {أني مسني الشيطان}: أصابني الشيطان.
{بنصب} مشقة في جسده {وعذاب} في ماله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَاذْكُرْ" أيضا يا محمد "عَبْدَنا أيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ "مستغيثا به فيما نزل به من البلاء: يا ربّ إنّي "مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ"... معنى النّصب في هذا الموضع: العلة التي نالته في جسده والعناء الذي لاقى فيه، والعذاب في ذهاب ماله...
عن قتادة: "وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيّوبَ" حتى بلغ "بِنُصْبٍ وَعَذابٍ": ذهاب المال والأهل، والضرّ الذي أصابه في جسده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لا ندري ما الذي كان من الله من تمكين الشيطان عليه حتى أضاف ذلك إلى الشيطان، وليس لنا أن نقول: إنه مكن عليه كذا، وفعل كذا في كذا، إلا أن يثبت عن الله، ثم وجه الحكمة من تمكين الشيطان على أوليائه في ما مكن في أمر الدين؛ لتعلم جهة الفضل من جهة العدل، وجهة الحلم من جهة الرحمة، وأن له [أن] يمتحن عباده بما شاء وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، فعلى ذلك بلاء أيوب عليه السلام والشدائد التي أصابته؛ جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك، ولكن ابتدأه امتحانا منه إياه بذلك.
{مسني الشيطان بنصب وعذاب} إنه وإن أضاف إليه، فهو في الحقيقة من الله لما أخبر أنه على يديه كقوله عز وجل: {يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واذكر عبدنا} أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا، وبينه بقوله: {أيوب} وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام؛ لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه.
ولما أمره بذكره، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال: {إذ} أي اذكر حاله الذي كان حين: {نادى} وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان؛ لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال: {ربه} أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه -وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى- أتاه ما لا صبر عليه: {إني} أي رب أدعوك بسبب أني.
ولما كان هنا في سياق التصبير، عظم الأمر بإسناد الضر إلى أعدى الأعداء إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال: {مسّني} أي وأنا من أوليائك.
{الشيطان} أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له.
{بنصب} أي ضر ومشقة وهم وداء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتعبه ويعييه ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك، وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرَشد، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه، والمحرك أوسطه، والمثقل بالضم أعلاه.
{وعذاب} أي نكد قوي جداً دائم مانع من كل ما يلذ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى، وأوهن البلاء القوى، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة؛ وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر، ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب -عليه السلام- كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً، ولكنه ظل على صلته بربه وثقته به، ورضاه بما قسم له، وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له -ومنهم زوجته- بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عدداً عينه -قيل مائة. وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه: (أني مسني الشيطان بنصب وعذاب).. فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان، وتأذيه بها، أدركه برحمته. وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذ كانت تعدية فعل {اذكر} إلى اسم أيوب على تقدير مضاف؛ لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله: {إذ نادى ربّه} بدل اشتمال من أيوب؛ لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب، وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله؛ لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه...
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب، ففي سورةَ
[الأنبياء: 83] {أني مسني الضر} فأسند المسّ إلى الضر، والضرّ هو النصب والعذاب، وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها. وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: {بِنُصبٍ} على أنها باء التعدية لتعدية فعل {مَسَّنِي}، أو باء الآلة مثل: ضربه بالعصا، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي: أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده، ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك.
أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب، ففي قول أيوب {أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ} كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام: {وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين} [يوسف: 33]. وتنوين « نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.