تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

وقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون ، وخرجتم مع موسى ، عليه السلام ، خرج{[1730]} فرعون في طلبكم ، ففرقنا بكم البحر ، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا{[1731]} كما سيأتي في مواضعه{[1732]} ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله .

{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } أي : خلصناكم منهم ، وحجزنا بينكم وبينهم ، وأغرقناهم وأنتم تنظرون ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم .

قال{[1733]} عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمر ، عن أبي إسحاق الهَمْداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون فقال : لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا ؛ فدعا بشاة فَذُبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه ، يقال له : يوشع بن نون : أين أمَرَ ربك ؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر . فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ ، فذهب به الغمر ، ثم رجع . فقال : أين أمَرَ ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كُذبت{[1734]} . فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله إلى موسى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } فضربه { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] ، يقول : مثل الجبل . ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }{[1735]} .

وكذلك قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي بيانه في موضعه{[1736]} . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال : " ما هذا اليوم الذي تصومون ؟ " . قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم{[1737]} ، فصامه موسى ، عليه السلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى منكم " . فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصومه .

وروى هذا الحديث البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق ، عن أيوب السختياني ، به{[1738]} نحو ما تقدم .

وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا سلام - يعني ابن سليم - عن زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " {[1739]} .

وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف ، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه .


[1730]:في جـ: "وخرج".
[1731]:في جـ: "مفصلا عن ذلك".
[1732]:في جـ: "مفصلا".
[1733]:في جـ، ط: "وقال".
[1734]:في جـ: "ولا كذبت"، وفي ط: "وكذبت".
[1735]:تفسير عبد الرزاق (1/67).
[1736]:في أ: "كما سيأتي في موضعه إن شاء الله".
[1737]:في جـ: "من الغرق، وفي ط: "من غرقهم".
[1738]:المسند (1/291) وصحيح البخاري برقم (2004) وصحيح مسلم برقم (1130).
[1739]:مسند أبي يعلى (7/133).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

هذا زيادة في التفصيل بذكر نعمة أخرى عظيمة خارقة للعادة ، بها كان تمام الإنجاء من آل فرعون ، وفيها بيان مقدار إكرام الله تعالى لهم ومعجزة لموسى عليه السلام وتعدية فعل { فرقنا } إلى ضمير المخاطبين بواسطة الحرف جار على نحو تعدية فعل { نجيناكم } [ البقرة : 49 ] إلى ضميرهم كما تقدم .

وفَرَق وفرَّق بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد إذ التشديد يفيده تعدية ومعناه الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء ، غير أن فرق يدل على شدة التفرقة وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالاً ، وقد قيل إن فرّق للأجسام وفرق للمعاني نقله القرافي عن بعض مشايخه وهو غير تام كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بدليل هذه الآية ، فالوجه أن فَرَّقَ بالتشديد لما فيه علاج ومحاولة وأن المخفف والمشدد كليهما حقيقة في فصل الأجسام وأما في فصل المعاني الملتبسة فمجاز .

وقد اتفقت القراءات المتواترة العشر على قراءة { فرقنا } بالتخفيف والتخفيف منظور فيه إلى عظيم قدرة الله تعالى فكان ذلك الفرق الشديد خفيفاً .

* وتصغر في عين العظيم العظائم *

وأل في { البحر } للعهد وهو البحر الذي عهدوه أعني بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر وسمته التوراة بحر سوف .

والباء في { بكم } إما للملابسة كما في طارت به العنقاء وعدا به الفرس ، أي كان فرق البحر ملابساً لكم والمراد من الملابسة أنه يفرق وهم يدخلونه فكان الفرق حاصلاً بجانبهم . وجوز صاحب « الكشاف » كون الباء للسببية أي بسببكم يعني لأجلكم .

والخطاب هنا كالخطاب في قوله : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] .

وقوله : { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } هو محل المنة وذكر النعمة وهو نجاتهم من الهلاك وهلاك عدوهم ، قال الفرزدق :

كيف تراني قَاليا مجنى *** قد قتل الله زياداً عني

فكون قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } تمهيداً للمنة لأنه سبب الأمرين النجاة والهلاك وهو مع ذلك معجزة لموسى عليه السلام .

وقد أشارت الآية إلى ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من لحاق جند فرعون بهم لمنعهم من مغادرة البلاد المصرية وذلك أنهم لما خرجوا ليلاً إما بإذن من فرعون كما تقول التوراة في بعض المواضع ، وإما خفية كما عبرت عنه التوراة بالهروب ، حصل لفرعون ندم على إطلاقهم أو أغراه بعض أعوانه بصدهم عن الخروج لما في خروجهم من إضاعة الأعمال التي كانوا يسخرون فيها أو لأنه لما رآهم سلكوا غير الطريق المألوف لاجتياز مصر إلى الشام ظنهم يرومون الانتشار في بعض جهات مملكته المصرية فخشى شرهم إن هم بعدوا عن مركز ملكه ومجتمع قوته وجنده .

إن بني إسرائيل ما خرجوا من جهات حاضرة مصر وهي يومئذ مدينة منفيس{[124]} لم يسلكوا الطريق المألوف لبلاد الشام إذ تركوا أن يسلكوا طريق شاطىء بحر الروم ( المتوسط ) فيدخلوا برية سينا من غير أن يخترقوا البحر ولا يقطعوا أكثر من اثنتي عشرة مرحلة أعني مائتين وخمسين ميلاً وسلكوا طريقاً جنوبية شرقية حول أعلى البحر الأحمر لئلا يسلكوا الطريق المألوفة الآهلة بقوافل المصريين وجيوش الفراعنة فيصدوهم عن الاسترسال في سيرهم أو يُلحق بهم فرعون من يردهم لأن موسى علم بوحي كما قال تعالى : 0{ وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنك متبعون } [ الشعراء : 52 ] إن فرعون لا يلبث أن يصدهم عن المضي في سيرهم فلذلك سلك بهم بالأمر الإلهي طريقاً غير مطروقة فكانوا مضطرين للوقوف أمام البحر في موضع يقال له « فم الحيروث » فهنالك ظهرت المعجزة إذ فلق الله لهم البحر بباهر قدرته فأمر موسى أن يضربه بعَصاه فانفلق وصار فيه طريق يبس مرت عليه بنو إسرائيل وكان جند فرعون قد لحق بهم ورام اقتحام البحر وراءهم فانطبق البحر عليهم فغرقوا .

وقوله : { وأغرقنا آل فرعون } أي جنده وأنصاره . ولم يذكر في هاته الآية غرق فرعون لأن محل المنة هو إهلاك الذين كانوا المباشرين لتسخير بني إسرائيل وتعذيبهم والذين هم قوة فرعون وقد ذكر غرق فرعون في آيات أخرى نتكلم عليها في موضعها إن شاء الله ، وكان ذلك في زمن الملك « منفتاح » ويقال له « منفطة » أو « مينيتاه » من فراعنة العائلة التاسعة عشرة في ترتيب فراعنة مصر عند المؤرخين .

قوله : { وأنتم تنظرون } جملة حالية من الفاعل وهو ضمير الجلالة في { فرقنا } و { أنجينا } و { أغرقنا } مقيدة للعوامل الثلاثة على سبيل التنازع فيها ، ولا يتصور في التنازع في الحال إضمار في الثاني على تقدير إعمال الأول لأن الجملة لا تضمر كما لا يضمر في التنازع في الظرف نحو سكن وقرأ عندك ولعل هذا مما يوجب إعمال الأول وهذا الحال زيادة في تقرير النعمة وتعظيمها فإن مشاهدة المنعم عليه للنعمة لذة عظيمة لا سيما ومشاهدة إغراق العدو أيضاً نعمة زائدة كما أن مشاهدة فرق البحر نعمة عظيمة لما فيها من مشاهدة معجزة تزيدهم إيماناً وحادث لا تتأتى مشاهدته لأحد . ويجوز أن تكون الجملة حالاً من المفعول وهو ( آل فرعون ) أي تنظرونهم ، ومفعول { تنظرون } محذوف ولا يستقيم جعله منزلاً منزلة اللازم . وإسناد النظر إليهم باعتبار أن أسلافهم كانوا ناظرين ذلك لأن النعمة على السلف نعمة على الأبناء لا محالة فضمير الخطاب مجاز .


[124]:- لأن مقر الإسرائيليين كان بمصر السفلى كما تقدم وكانت قاعدتها منفيس وهي يوم دخول بني إسرائيل لحكم العمالقة، وكان مقر الفراعنة أيم خروج مصر السفلى منهم بمدينة طيوة أو طيبة قاعدة مصر العليا، ثم رجعوا لمنفيس وان خروج بني إسسرائيل من مدينة تسمى رعميس في جهات مصر السفلى.