تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} (8)

وقوله : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } قال مجاهد : في أي شَبَه أب أو أم أو خال أو عم ؟

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سنان القزاز ، حدثنا مُطَهَّر بن الهيثم ، حدثنا موسى بنُ عُلَيِّ بن رَبَاح ، حدثني أبي ، عن جدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ما ولد لك ؟ " قال : يا رسول الله ، ما عسى أن يُولَد لي ؟ إما غلام وإما جارية . قال : " فمن يشبه ؟ " . قال : يا رسول الله ، من عسى أن يشبه ؟ إما أباه وإما أمه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها : " مه . لا تقولَنَّ هكذا ، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } " قال : سَلَكك{[29815]} .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني ، من حديث مُطهر بن الهيثم ، به{[29816]} وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية ، ولكن إسناده ليس بالثابت ؛ لأن " مُطَهَّر بن الهيثم " قال فيه أبو سعيد بن يونس : كان متروك الحديث . وقال ابن حبان : يُرْوى عن موسى بن علي وغيره ما لا يُشبهُ حَديثَ الأثبات . ولكن في الصحيحين عن أبي هُرَيرة أن رَجُلا قال : يا رسول الله ، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ ؟ . قال : " هل لك من إبل ؟ " . قال : نعم . قال : " فما ألوانها ؟ " قال : حُمر . قال : " فهل فيها من أورَق ؟ " قال : نعم . قال : " فأنى أتاها ذلك ؟ " قال : عسى أن يكون نزعة عِرْق . قال : " وهذا عسى أن يكون نزعة عرق " {[29817]} .

وقد قال عكرمة في قوله : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } إن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة خنزير . وكذا قال أبو صالح : إن شاء في صورة كلب ، وإن شاء في صورة حمار ، وإن شاء في صورة خنزير .

وقال قتادة : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } قال : قادر - والله - ربنا على ذلك . ومعنى هذا القول عند هؤلاء : أن الله ، عز وجل ، قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة الخلق ، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام ، حَسَن المنظر والهيئة .


[29815]:- (3) في م: "شكلك".
[29816]:- (4) المعجم الكبير (5/74).
[29817]:- (5) صحيح البخاري برقم (5305) وصحيح مسلم برقم (1500).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} (8)

وقوله : { في أي صورة } اعلم أن أصل { أي } أنها للاستفهام عن تمييز شيء عن مشاركيه في حاله كما تقدم في قوله تعالى : { من أي شيء خلقه } في سورة عبس ( 18 ) وقوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } [ الأعراف : 185 ] .

والاستفهام بها كثيراً ما يراد به الكناية عن التعجب أو التعجيب من شأن ما أضيفت إليه { أيّ } لأن الشيء إذا بلغ من الكمال والعظمة مبلغاً قوياً يُتساءل عنه ويُستفهم عن شأنه ، ومن هنا نشأ معنى دلالة { أيّ } على الكمال ، وإنما تحقيقه أنه معنى كنائي كثر استعماله في كلامهم ، وإنما هي الاستفهامية ، و { أيّ } هذه تقع في المعنى وصفاً لنكرة إمّا نعتاً نحو : هو رجل أيُّ رجل ، وإما مضافة إلى نكرة كما في هذه الآية ، فيجوز أن يتعلق قوله : { في أي صورة } بأفعال خلقَك ، فسوَّاك ، فعدَّلك » فيكون الوقف على { في أي صورة } .

ويجوز أن يتعلق بقوله { ركبك } فيكون الوقف على قوله { فعدلك } ويكون قوله { ما شاء } معترضاً بين { في أي صورة } وبين { ركَبَّك } .

والمعنى على الوجهين : في صورة أيّ صورة ، أي في صورة كاملة بديعة .

وجملة { ما شاء ركبك } بيان لجملة { عدَّلك } باعتبار كون جملة { عدّلك } مفرعة عن جملة { فسوَّاك } المفرغة عن جملة { خلقك } فبيانها بيان لهما .

و { في } للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة ، أي خلقك فسوّاك فعدلك ملابساً صورة عجيبة فمحل { في أي صورة } محل الحال من كاف الخطاب وعامل الحال { عدّلك } ، أو { ركّبك } ، فجعلت الصورة العجيبة كالظرف للمصوّر بها للدلالة على تمكنها من موصوفها .

و { ما } يجوز أن تكون موصولة مَا صدقُها تركيب ، وهي في موضع نصب على المفعولية المطلقة و { شاء } صلة { ما } والعائد محذوف تقديره : شاءه . والمعنى : ركّبك التركيب الذي شاءه قال تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] .

وعُدل عن التصريح بمصدر { ركّبك } إلى إبهامه ب { ما } الموصولة للدلالة على تقحيم الموصول بما في صلته من المشيئة المسندة إلى ضمير الرب الخالق المبدع الحكيم وناهيك بها .

ويجوز أن تكون جملة { شاء } صفة ل { صورة } ، والرابط محذوف و { ما } مزيدة للتأكيد ، والتقدير : في صورة عظيمة شاءها مشيئةً معينة ، أي عن تدبير وتقدير .