هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب ، الذين أخَذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا{[6325]} على أهْبَة من أمره ، فإذا أرسله الله تابعوه ، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم .
وفي هذا تَحْذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويُسْلكَ بهم مَسْلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا{[6326]} منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سُئِل عن عِلْم فكَتَمه ألْجِم يوم القيامة بِلجَامٍ من نار " .
قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } الآية ، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم . والعامل في { إذ } فعل مقدر تقديره اذكر ، وأخذ هذا الميثاق هو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة ، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج : الآية في اليهود خاصة ، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه{[3765]} ، قال مسلم البطين{[3766]} : سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له : نزلت في يهود أخذ الميثاق عليهم في أمر محمد فكتموه ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه » فيجيء قوله { فنبذوه } عائداً على الناس الذين بين الأنبياء لهم ، وقال قوم من المفسرين : الآية في اليهود والنصارى ، وقال جمهور من العلماء : الآية عامة في كل من علمه الله علماً ، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) {[3767]} ، وقد قال أبو هريرة : ( إني لأحدثكم حديثاً ، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } ){[3768]} [ البقرة : 174 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : «ليبيننه للناس ولا يكتمونه » ، بالياء من أسفل فيهما ، وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما ، وكلا القراءتين متجه ، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب ، وفي قراءة ابن مسعود «لتبينونه » دون النون الثقيلة ، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم ، قاله سيبويه ، و «النبذ » الطرح ، وقوله تعالى : { وراء ظهورهم } ، استعارة لما يبالغ في اطراحه ، ومنه { واتخذتموه وراءكم ظهرياً }{[3769]} ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
تَميم بْنَ مُرٍّ لا تَكُونَنَّ حاجتي . . . بظهرٍ فَلا يعيى عليَّ جَوابُها{[3770]}
ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجعلوني كقدح الراكب{[3771]} . أراد عليه السلام ، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم ، وهو موضع القدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَمَا نِيطَ خلْفَ الراكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ {[3772]}
والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه ، لأن الراكب يحتاجه ، ومحله من محلات الراكب جليل ، والثمن القليل : هو مكسب الدنيا . وباقي الآية بين .
قال أبو محمد : والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود ، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها .
معطوف على قوله : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ آل عمران : 186 ] فإنّ تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين وإنّ الطعن في كلامه وأحكام شريعته من ذلك كقولهم : { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران : 181 ] . والقولُ في معنى أخذ الله تقدّم في قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ البقرة : 34 ] ونحوه .
و { الذين أوتوا الكتاب } هم اليهود ، وهذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبياِئهم ، وكان فيه ما يدلّ على عمومه لعلماء أمّتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول .
وجملة { لتبيننه للناس } بيان للميثاق ، فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم ، ولذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : ليُبيّننّه بياء الغيبة على طريقة الحكاية بالمعنى ، حيث كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقت الإخبار عنهم . وللعرب في مثل هذه الحكايات وجوه : باعتبار كلام الحاكي ، وكلام المحكي عنه ، فقد يكون فيه وجهان كالمحكي بالقول في نحو : أقسَم زيد لا يفعلُ كذا ، وأقسم لا أفعل كذا ، وقد يكون فيه ثلاثة أوجه : كما في قوله تعالى : { قالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله } [ النمل : 49 ] قرىء بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية لنبيّتنّه لتبيّتنّه ليبيّتنّه ، إذا جعل تقاسموا فعلاً ماضياً فإذا جعل أمراً جاز وجهان : في لنبيّتنّه النون والتاء الفوقية . والقول في تصريف وإعراب { لتبيّننّه } كالقول في { لتبلونّ } المتقدّم قريباً .
وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين : هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله ، وعدمُ كتمانه إي إخفاء شيء منه . فقوله : { ولا تكتمونه } عطف على لتبيننه للناس ولم يقرن بنون التوكيد لأنّها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما .
وقوله : { فنبذوه } عُطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك ، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية ، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذِ الميثاق ، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان . ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب ، وهو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه والاهتمام به وصرف الفكرة فيه . ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساؤوا فيها التأويل واشتروا بها الثمن القليل ، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّاً كانت كلّ جزئية مأخوذاً عليها الميثاق ، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ والاشتراء .
والنبذ : الطرح والإلقاء ، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيهاً للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به .
ووراء الظُّهور هنا تمثيل للإضاعة والإهمال ، لأنّ شأن الشيء المهتمّ به المتنافس فيه أن يجعل نصب العين ويحرس ويشاهد . قال تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] . وشأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر ولا يلتفت إليه ، وفي هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد .
والضميران : المنصوب والمجرور ، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفّوا بعهد الله وعوّضوه بثمن قليل ، وذلك يتضمّن أنّهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب وعدم كتمانه ، ويجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب ولم يعتنوا به ، والمراد إهمال أحكامه وتعويض إقامتها بنفع قليل ، وذلك يدلّ على نوعي الإهمال ، وهما إهمال آياته وإهمال معانيه .
والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل ، وهو ما يأخذونه من الرُّشَى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامّة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة ، وتأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيْدي الجبابرة والظلمة بما يُطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة ، وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر . وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلاّ أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحَاد جنس الحكم والعلّة فيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب}، يعني أعطوا التوراة، يعني اليهود، {لتبيننه للناس}، يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، {ولا تكتمونه}، أي أمره وأن تتبعوه، {فنبذوه}، يعني فجعلوه {وراء ظهورهم واشتروا به} بكتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم {ثمنا قليلا}، وذلك أن سفلة اليهود كانوا يعطون رؤوس اليهود من ثمارهم وطعامهم عند الحصاد، ولو تابعوا محمدا صلى الله عليه وسلم لذهب عنهم ذلك المأكل، يقول الله عز وجل: {فبئس ما يشترون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضا من هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم يا محمد إذ أخذ الله ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة والإنجيل، وأنك لله رسول مرسل بالحقّ، ولا يكتمونه، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} يقول: فتركوا أمر الله وضيعوه، ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك، فكتموا أمرك، وكذبوا بك، {واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً} يقول: وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوّتك، عوضا منه، خسيسا قليلاً من عرض الدنيا. ثم ذمّ جلّ ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك، فقال: {فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ}. واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية؛
فقال بعضهم: عني بها اليهود خاصة وقال آخرون: عني بذلك كلّ من أوتي علما بأمر الدين.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأما قوله: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً} فإن معناه ما قلنا من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب.
الأول: أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والإنجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام، أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل: كيف يليق بكم إيراد الطعن في نبوته ودينه مع أن كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته ودينه.
الثاني: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد صلى الله عليه وسلم احتمال الأذى من أهل الكتاب، وكان من جملة إيذائهم للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته، فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو {ليبيننه ولا يكتمونه} بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق، أي فقال لهم: لتبيننه، ونظير هذه الآية قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدون إلا الله} بالتاء والياء وأيضا قوله: {وقضينا إلى بنى إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض}. المسألة الثانية: الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة، وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوردوا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها، فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والإلزام هو المراد بأخذ الميثاق. وعن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرؤون {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. واعلم أن إلزام هذا الإظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب، والله أعلم. المسألة الثالثة: الضمير في قوله: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: قال سعيد بن جبير والسدي: هو عائد إلى محمد عليه السلام، وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور، وقال الحسن وقتادة: يعود إلى الكتاب في قوله: {أوتوا الكتاب} أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخَذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهْبَة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وهم علماء اليهود والنصارى (لتبيننه للناس) أي لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلم. وفي قوله تعالى: (ولا تكتمونه) من النهي عن الكتمان، بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به (فنبذوه) أي الميثاق (وراء ظهورهم) أي طرحوه ولم يراعوه. ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية. كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به (واشتروا به) أي استبدلوا به (ثمنا قليلا) أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا (فبئس ما يشترون) بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه الاتصال بين الآية الأولى من هذه الآيات وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها كانت في أهل الكتاب وقد تقدم أنه تعالى ذكر أحوال النصارى منهم ومحاجتهم في أول السورة ثم ذكر بعض أحوال اليهود قبل قصة أحد، ثم عاد إلى بيان بعض شؤونهم بعدها فكان منه ما في هذه الآية، وهو كتمان ما أمروا ببيانه واستبدال منفعة حقيرة به لم يفصل بينه وبين ما قبله فيهم إلا بآيتين قد عرفت حكمة وضعهما في موضعهما.
...وقال الأستاذ الإمام: وجه الاتصال بين هذه الآية وما قبلها هو أن ما ذكر في الآية السابقة من البلاء الذي يُصاب به المؤمنون إنما يصابون به لأخذهم بالحق ودعوتهم إليه ومحافظتهم في الشدائد عليه، فناسب بعد ذكر ذلك البلاء الذي أخبر الله به المؤمنين ووطن عليه نفوسهم ليثبتوا أو يصبروا أن يذكر لهم مثل الذين خلوا من قبل إذ أخذ عليهم الميثاق ببيان الحق فكان من أمرهم ما استحقوا به الوعيد المذكور في الآية. فهو يذكر المؤمنين بذلك كأنه يقول لهم إنكم إذا كتمتم ما أنزل عليكم يكون وعيدكم كوعديهم.
قال تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) أي اذكروا إذ أخذوا الله الميثاق عليهم بلسان أنبيائهم. قال الأستاذ الإمام: ولا نقول في التوراة لأن القرآن لم يقل بذلك ولا بعدمه، فليس لنا أن نقيد برأينا ما أطلقه ونزيد عليه بغير علم. (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) أي أكد عليهم إيجاب البيان أو التبيين. وفيه معنى التكثير والتدريج كما يؤكد على المخاطب أهم الأمور بالعهد واليمين، فيقال له الله لتفعلن كذا. فقراءة من قرأوا بتاء الخطاب حكاية للمخاطبة التي أخذ بها الميثاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالمثتاة التحتية "ليبيننه للناس ولا يكتمونه "لأنهم غائبون. وقد تقدم بيان معنى أخذ الميثاق في الآية 81 من هذه السورة (راجع الجزء الثالث).
روي عن سعيد بن جبير والسدي أن الذي أخذ عليهم الموثق ببيانه هو محمد صلى الله عليه وسلم، وعن الحسن وقتادة أنه الكتاب الذي أوتوه، وهو الظاهر المتبادر ويدخل فيه البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال الأستاذ الإمام وتبيينه هو أن يوضحوا معانيه كما هي ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها ومقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع في فهمه لبس ولا اضطراب. وههنا أمران: العلم بالكتاب على غير وجهه وهو نتيجة عدم البيان، وعدم العلم به بالمرة وهو نتيجة الكتمان. وقد يُقال إن الظاهر المتبادر في الترتيب هو أن ينهى عن الكتمان أولا ثم يأمر بالبيان، لأن البيان إنما يكون مع إظهار الكتاب فلماذا عكس؟ والجواب عن هذا أن القرآن قدم أهم الأمرين لأن المخالفة في الأول وهو الكتمان تقتضي الجهل البسيط وهو الجهل بالدين، وفي الثاني تقتضي الجهل المركب وهو اعتقاد ما ليس بدين دينا، والجهل البسيط أهون لأن صاحبه يوشك أن يظفر بالكتاب يوما فيهتدي به ويعرف الدين، وأما الجهل المركب وهو فهمه على غير وجهه فيعسر زواله بالمرة فيكون صاحبه ضالا مع وجود أعلام الهداية أمامه.
قال: والعبرة في ذلك ظاهرة عندنا وفي أنفسنا، فإن كتابنا وهو القرآن العزيز لم يوجد كتاب في الدنيا حفظ كما حفظ ونقل كما نقل ونشر كما نشر، فإن الجماهير من المسلمين قد حفظوه عن ظهر قلب من القرن الأول إلى هذا اليوم وهم يتلونه في كل مكان، حتى أنك تسمعه في الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان وفي كل حال من الأحوال، ولكنهم تركوا تبيينه للناس فلم يغن عنهم عدم الكتمان شيئا فإنهم فقدوا هدايته حتى أنهم يعترفون بأن المسلمين أنفسهم منحرفون عنه، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر- ويعترفون بأن الغش قد عم وطم، ويعترفون بارتفاع الأمانة، وشيوع الخيانة الخ الخ. وكل هذا من نتائج ترك التبيين.
قال: ولهذه التعمية وهذا الاضطراب في فهم الكتاب أسباب، أهمها ما كان الخلاف بين العلماء من قبل، لاسيما في القرن الثالث، فقد انقسمت الأمة إلى شيع وذهبت في الخلاف مذاهب في الأصول والفروع وصار كل فريق ينصر مذهبه ويحتج بالكتاب. يأخذ ما وافقه منه ويؤول ما خالفه، واتبعهم الناس على ذلك ورضي كل فريق من المسلمين بكتب طائفة من أولئك المختلفين، حتى جاءت أزمنة ترك فيها الجميع التحاكم إلى القرآن وتأييد ما يذهبون إليه به وتأويل ما عداه (أقول بل وصلنا إلى زمن يحرمون فيه ذلك ولا يرون فيه للقرآن فائدة تتعلق بمعناه بل كل فائدته عندهم أن يتبرك به ويتعبد بألفاظه ويستشفى به من أمراض الجسد دون أمراض القلب والروح) حتى صرنا نتمنى لو دامت تلك الخرافات فإنها أهون من هجر القرآن بتاتا، فإن الناس قد وقعوا في اضطراب من أمر دينهم حتى صاروا يحسبون ما ليس بدين دينا وحتى أن العلماء يرون المنكرات فلا ينكرونها، بل كثيرا ما يقعون فيها أو يتأولون لفاعليها ولو بينوا للناس كتاب الله لقبلوه.
وأقول: إن الذين تصدوا لتبيين القرآن في الكتب وهم المفسرون لم يكن تبيينهم كاملا كما ينبغي وكان جمال الدين يقول: "إن القرآن لا يزال بكرا" وأن لي كلمة ما زلت أقولها وهي أن سبب تقصير المفسرين الذين وصلت إلينا كتبهم هو عدم الاستقلال التام في الفهم، وما كان ذلك لبلادة؛ وإنما جاء من أمور أهمها الافتتان بالروايات الكثيرة، وتغلب الاصطلاحات الفنية في الكلام والأصول والفقه وغير ذلك، ومحاولة نصر المذاهب وتأييدها.
ثم أقول: إن البيان أو التبيين على نوعين أحدهما تبيينه لغير المؤمنين به لأجل دعوتهم إليه وثانيهما تبيينه للمؤمنين به لأجل إرشادهم وهدايتهم بما أنزل إليهم من ربهم وكل من النوعين واجب حتم لا هوادة فيه ولا يشترط فيه ما اشترطه بعض الفقهاء من الاستفتاء والسؤال، إذ زعموا أن العالم لا يجب عليه التصدي لدعوة الناس وتعليمهم إلا إذا سألوه ذلك، والقرآن حجة عليهم وهذه الآية آكد في الإيجاب من قوله تعالى في هذه السورة: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [النساء: 104] الذي تقدم تفسيره في هذا الجزء. فإن الأمر وإن كان هناك للوجوب لأن الأصل فيه ذلك على قول جمهور الأصوليين وأكد بقوله: (وأولئك هم المفلحون) إلا أن التأكيد فيه دون تأكيد أخذ الميثاق عنا وما فيه من معنى القسم ثم ما يليه من تصوير ترك الامتثال بنبذ الكتاب وبيعه بثمن قليل ومن الذم والوعيد على ذلك إذ قال:
(فنبذوه وراء ظهورهم) النبذ الطرح وقد جرت كلمة نبذه وراء ظهره مجرى المثل في ترك الشيء وعدم المبالاة به والاهتمام بشأنه، كما يقال في مقابل ذلك "جعله نصب عينيه- أو – ألقاه بين عينيه" أي اهتم به أشد الاهتمام بحيث كأنه يراه في كل وقت فلا ينساه ولا يغفل عنه، وفيه تنبيه إلى كون هذا هو الواجب الذي كان عليهم أن يقوموا فيه فيجعلوا الكتاب إماما لهم ونصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهر لا ينظر إليه ولا يفكر في شأنه، وكذلك كان أهل الكتاب (منهم) الذين يحملونه كما يحمل الحمار الأسفار فلا يستفيد مما فيها شيئا (منهم) الذي يحرفونه عن مواضعه (ومنهم) الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها أي قراءات يقرؤونها أو تشهيات يتشهونها. وتقدم بيان ذلك في سورة البقرة وسيأتي في مواضع أخرى.
ثم بين تعالى جريمة أخرى من جرائمهم في الكتاب فقال: (واشتروا به ثمنا قليلا) أي أخذوا فائدة دنيوية قليلة لا توازي عشر معشار فوائد بيان الكتاب والعمل به فكانوا مغبونين في هذا البيع والشراء. وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤوسين وعكسه كما تقدم في سورة البقرة وفي هذه السورة ومنه ما يتقرب به العلماء إلى الحكام وأجور الفتاوى الباطلة وسيأتي بعض التفصيل فيه والعبرة به.
وقد أرجع بعضهم كالزمخشري الضمير في قوله: (فنبذوه) وقوله: (اشتروا به) إلى الميثاق. وجرى مثل ذلك على لسان الأستاذ الإمام في الدرس ونقله عنه بعض الطلاب، ولعله سهو، فإن هذه الآية بمعنى آية البقرة: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) [البقرة: 173] الآية وهي صريحة في الكتاب. فيراجع تفسيرها في الجزء الثاني وفي معناها آيات أخرى منها قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) [الأعراف: 79] ومنها في خطاب بني إسرائيل: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) [البقرة: 41] فيراجع تفسيرهما في الجزء الأول.
وورد في هذه السورة (آل عمران) بيع العهد والإيمان واشتراء الثمن القليل بهما في الكلام على اليهود، قال تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) [آل عمران: 77] الآية وتراجع في الجزء الثالث والعهد يأتي بمعنى الميثاق ويطلق بمعنى ما عهد الله به إلى الناس في وحيه من الشرائع كقوله عز وجل: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) [يس: 60] الآية. وقوله: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين) [البقرة: 125] الآية. فالعهد بهذا المعنى يراد به المعهود به فيكون بمعنى الكتاب وهو المراد في الآية المذكورة آنفا [آل عمران: 77] ولذلك أفرد العهد وعطف عليه الأيمان لأن العهد واحد وإن اشتمل على أحكام كثيرة وهو الكتاب والإيمان تعتبر كثيرة بكثرة من أخذت عليهم.
وجملة القول أن الضمير في قوله: (فنبذوه) وقوله: (واشتروا به) هو ضمير الكتاب لا الميثاق كما قيل.
الأستاذ الإمام: نبذوا الميثاق لم يفوا به، إذ تركوا العمل بالكتاب. والثمن القليل الذي اشتروه به لم يبينه القرآن لأنه ظاهر في نفسه ومعروف من سيرتهم وهو عبارة عن التمتع بالشهوات الدنية واللذائذ الفانية، فكان أحدهم يجد في العمل بالكتاب والتزام الشريعة مشقة فيتركه حبا في الراحة وإيثارا للذة. وأما التأويل والتحريف فقد كان لهم فيه أغراض كثيرة:
(منها) الخوف من الحكام والرجاء فيهم فيحرف رجال الدين النصوص عن مواضعها المقصودة ويصرفونها إلى معان أخرى ليوافقوا ما يريد الحاكم فيأمنوا شره وينالوا بره.
(ومنها) إرضاء العامة أو الأغنياء خاصة بموافقة أهوائهم لاستفادة الجاه والمال.
(ومنها) – وهو الأصل في الأصيل في التحريف – الجدل والمراء بين رجال الدين أنفسهم لا سيما الرؤساء وطلاب الرئاسة منهم فإن الواحد من هؤلاء إذا قالوا قولا أو أفتى فأخطأ فأبان خطأه آخر ينبري لتصحيح قوله وتوجيه فتياه وتخطئة خصمه وتأخذه العزة بالإثم فيرى الموت أهون عليه من الاعتراف بخطأه والرجوع إلى قول أخيه في العلم والدين.
(ومنها) الجهل فإن المتصدي للتعليم أو الفتيا قد يجهل مسائل فيتعرض لبيانها بغير علم وإذا أبيح لمثل هذا أن يعلم للأسباب التي نعهدها من الرؤساء الذين يجيزون جهلة الطلاب بالتدريس ويعطونهم الشهادة بالعمل محاباة لهم فإنه يربي تلاميذ أجهل منه فيكونون كلهم محرفين مخرفين ويفسد بهم الدين (لا سيما إذا صاروا مقربين من الأمراء والحكام).
(ومنها) انقطاع سلسلة أهل الفهم والتبيين وخبط الناس بعدهم فيما يؤثر عنهم من بيان وتأويل وحمله على غير المراد منه حتى بعدوا عن الأصل بعدا شاسعا.
قال: وانظر في حال المسلمين- الذين اتبعوا سنن من قبلهم- واعتبر بحال أهل الأزهر منهم ترى بعينيك كما رأينا وتسمع بأذنيك كما سمعنا وتفهم سر ما قصه الله من أنباء أهل الكتاب علينا.
أقول: ومما سمعه هو وهو العجب العجاب قول شيخ من أكبر الشيوخ سنا وشهرة في العلم في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملأ من العلماء "من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق" يعني أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء فقال له الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق. وقد ذكرنا هذه المسألة في المنار في زمنهما.
واعلم أنه لا مفسدة أضر على الدين وأبعث على إضاعة الكتاب ونبذه وراء الظهر واشتراء ثمن قليل به من جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام لا سيما المستبدين منهم، وإنني لا أعقل معنى لجعل الرتب العلمية ومعايش العلماء في أيدي السلاطين والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالا في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاءوا من غش العامة باسم الدين وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول ولا فتوى من عالم رسمي مطوق بتلك السلاسل...
إن علماء السلف كانوا يهربون من قرب الأمراء المستبدين أشد مما يهربون من الحيات والعقارب، ورووا في ذلك أخبارا وآثار ا كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم "سيكون بعدي أمراء (زاد في رواية يكذبون ويظلمون) فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض" الحديث رواه الترمذي وصححه النسائي والحاكم وصححه أيضا البيهقي. وفي معناه قوله صلى الله عليه وسلم "سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم ويعملون فيسيئون العمل لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحكم وتصدقوا كذبهم فأعطوهم الحق ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد" رواه الطبراني عن أبي سلالة وله طرق أخرى، وإنما أوردناه لقوله فيه "يملكون أرزاقهم".
ومنها حديث أنس المشهور" العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم "رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وكذا الحاكم في التاريخ وأبو نعيم في الحياة والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم، ونازع السيوطي ابن الجوزي في وضعه فقال: إن له شواهد فوق الأربعين، فيحكم له على مقتضى صناعة الحديث بالحسن.
. وفي الباب أحاديث أخرى أوردها الحافظ السيوطي في كتاب خاص سماه (الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) والآثار عن السلف الصالح في ذلك أكثر لظهور أمراء الجور في زمنهم وتهافت العلماء عليهم، منها قول حذيفة الصحابي الجليل إياكم ومواقف الفتن قيل وما هي؟ قال أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمي فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه. وقال أبو ذر الصحابي الجليل لسلمة بن قيس: لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
وقال الأوزاعي الإمام المشهور: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا (أي من عمال الحكومة) وقال سمنون العابد الشهير: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال عند الأمير وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك، ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم. اه.
وقد أشار إليه بقوله: وكنت أسمع الخ إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:« إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص» رواه الديلمي في مسند الفردوس. أو إلى قول سفيان الثوي ليوسف بن أسباط: إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء، إياك أن تخدع فيقال لك: ترد مظلمة، تدفع من مظلوم، إن هذه خدعة إبليس اتخذها للقراء سلما.
أقول: يعنون بالقراء علماء الدين يعني أن الشيطان يلبس على رجال الدين ما يلبسون، فيقول لهم ويقولون إننا لا نريد بغشيان الأمراء والتردد عليهم إلا نفع الناس ودفع المظالم عنهم، وهم إنما يريدون المال والجاه بدينهم ويقل الصادق فيهم. وهكذا أضاعوا دينهم فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا.
قال تعالى: {فبئس ما يشترون} أي هو ذميم قبيح لأنهم يجعلون هذا العرض الفاني بدلا من النعيم الباقي في الآخرة، وكذا من سعادة الدنيا الحقيقية التي تحصل للأمة بمحافظة العلماء على الكتاب وتبيينه لها وإرشادها به إلى ما يهذب أخلاقها ويعلي آدابها ويجمع كلمتها ويحول بينها وبين مطامع المستبدين فيها حتى تكون أمة عزيزة قوية متكافلة متضامنة أمرها شورى بين أهل الرأي وأولي الأمر من أفرادها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)
معطوف على قوله: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [آل عمران: 186] فإنّ تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين وإنّ الطعن في كلامه وأحكام شريعته من ذلك كقولهم: {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181]. والقولُ في معنى أخذ الله تقدّم في قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [البقرة: 34] ونحوه.
و {الذين أوتوا الكتاب} هم اليهود، وهذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبياِئهم، وكان فيه ما يدلّ على عمومه لعلماء أمّتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول.
وجملة {لتبيننه للناس} بيان للميثاق، فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم، ولذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: ليُبيّننّه بياء الغيبة على طريقة الحكاية بالمعنى، حيث كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقت الإخبار عنهم. وللعرب في مثل هذه الحكايات وجوه: باعتبار كلام الحاكي، وكلام المحكي عنه، فقد يكون فيه وجهان كالمحكي بالقول في نحو: أقسَم زيد لا يفعلُ كذا، وأقسم لا أفعل كذا، وقد يكون فيه ثلاثة أوجه: كما في قوله تعالى: {قالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله} [النمل: 49] قرئ بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية لنبيّتنّه لتبيّتنّه ليبيّتنّه، إذا جعل تقاسموا فعلاً ماضياً فإذا جعل أمراً جاز وجهان: في لنبيّتنّه النون والتاء الفوقية. والقول في تصريف وإعراب {لتبيّننّه} كالقول في {لتبلونّ} المتقدّم قريباً.
وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين: هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله، وعدمُ كتمانه إي إخفاء شيء منه. فقوله: {ولا تكتمونه} عطف على لتبيننه للناس ولم يقرن بنون التوكيد لأنّها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما.
وقوله: {فنبذوه} عُطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذِ الميثاق، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان. ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب، وهو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه والاهتمام به وصرف الفكرة فيه. ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساؤوا فيها التأويل واشتروا بها الثمن القليل، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّاً كانت كلّ جزئية مأخوذاً عليها الميثاق، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ والاشتراء.
والنبذ: الطرح والإلقاء، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيهاً للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به.
ووراء الظُّهور هنا تمثيل للإضاعة والإهمال، لأنّ شأن الشيء المهتمّ به المتنافس فيه أن يجعل نصب العين ويحرس ويشاهد. قال تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور: 48]. وشأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر ولا يلتفت إليه، وفي هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد.
والضميران: المنصوب والمجرور، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفّوا بعهد الله وعوّضوه بثمن قليل، وذلك يتضمّن أنّهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب وعدم كتمانه، ويجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب ولم يعتنوا به، والمراد إهمال أحكامه وتعويض إقامتها بنفع قليل، وذلك يدلّ على نوعي الإهمال، وهما إهمال آياته وإهمال معانيه.
والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل، وهو ما يأخذونه من الرُّشَى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامّة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة، وتأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيْدي الجبابرة والظلمة بما يُطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة، وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر. وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلاّ أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحَاد جنس الحكم والعلّة فيه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِن الآية الحاضرة وإِن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب من اليهود والنصارى إِلاّ أنّها في الحقيقة تحذير وإِنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإِلهية، وتوضيحها وإِظهارها بجلاء، وإِن ذلك ممّا كتبه الله عليهم، وأخذ منهم ميثاقاً مؤكداً وغليظاً.
إِنّ كلمة «لتبيّننه» وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس، وجعلها في متناول الجميع بوضوح ودون غبش ليقف عليها الناس أجمعون من دون إِبهام، ويتذوقونها بأرواحهم وأفئدتهم دون أيّة حجب وسدود.
فالذين يتقاعسون أو يقصرون في عرض الحقائق الإِلهية وبيانها وتوضيحها للمسلمين لا شك تشملهم هذه الآية، وينالهم نفس المصير الذي ذكره الله فيها لعلماء اليهود وأحبارهم.
فقد روى عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من كتم علماً عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار».