الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ} (187)

قوله تعالى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } : هذا جوابٌ لِما تضمَّنه الميثاق من القسم . وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر بالياء جرياً على الاسم الظاهر وهو كالغائبِ وحَسَّن ذلك قولُه بعدَه : " فنبذوه " . والباقون بالتاء خطاباً على الحكاية تقديرُه : " وقلنا لهم " ، وهذا كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 83 ] بالتاء والياء ، وتقدَّم تحريره .

وقوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } يَحتمل وجهين ، أحدهما : واو الحال ، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحال أي : لتُبَيِّنُنَّه غيرَ كاتمين . والثاني : أنها للعطف ، وأنَّ الفعلَ بعدها مقسمٌ عليه أيضاً ، وإنما لم يُؤكَّد بالنون لأنه منفيٌّ ، تقول : " واللهِ لا يقومُ زيد " من غيرِ نونٍ . وقال أبو البقاء : " ولم يأتِ بها في " تكتمونه " اكتفاءً بالتوكيدِ في الأول لأنَّ " تكتمونَه " توكيدٌ " ، وظاهرُ عبارتِه أنه لو لم يكن بعدَ مؤكَّدٍ بالنونِ لزم توكيدُه ، وليس كذلك لِما تقدَّم . وقوله : " لأنه توكيدٌ " يعني أنَّ نَفْيَ الكتمان عنهم من قوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } ، فجاءَ قولُه : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } توكيداً في المعنى .

واستحسن الشيخ هذا الوجهَ أعني جَعْلَ الواوِ عاطفةً لا حاليةً قال : " لأن هذا الوجه الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ بعد الواو حتى تصيرَ الجملةُ اسميةً ، لأنَّ المضارع المنفيّ ب " لا " لا يَصِحُّ دخولُ الواو عليه . وغيره يقول : إنها تمتنع إذا كان مضارعاً مثبتاً فيفهم من هذا أن المضارع المنفيَّ بكلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه .

وقرأ عبد الله " لَتُبَيِّنُونه " من غير توكيد . قال ابن عطية : " وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد ، قال سيبويه " انتهى . والمعروف من مذهب البصريين لزومُهما معاً ، والكوفيون يجيزون تعاقبهما في سَعة الكلام ، وأنشدوا :

وعَيْشِك يا سلمى لأُوقِنُ أنني *** لِما شِئْتِ مُسْتَحْلٍ ولو أنَّه القتلُ

وقال آخر :

يميناً لأَبْغَضُ كلَّ امرىءٍ *** يُزَخْرِفُ قولاً ولا يفعلُ

فأتى باللامِ وحدها ، وقد تقدَّم هذا مرةً أخرى بأشبع من هذا الكلام .

وقرأ ابن عباس : " ميثاقَ النبيين " . والضميرِ في قوله : " فنبذوه " يعود على الناس المبيَّن لهم ، لاستحالةِ عوْدِه على النبيين ، وكان قد تقدَّم لك في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم } [ آل عمران : 81 ] أنه في أحد الأوجه على حذف مضاف ، أي : أولاد النبيين ، فلا بُعْدَ في تقديرِه هنا ، أعني قراءة ابن عباس .