يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده ، الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم ، عز وجل ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تبلغ الحلية{[24569]} من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " . {[24570]}
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا ، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " . وقال : " [ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ]{[24571]} هي لهم في الدنيا ولكم{[24572]} في الآخرة " .
وقال{[24573]} ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن لَهِيعَة ، عن عقيل بن خالد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أبا أمامة حدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم ، وذكر حلي أهل الجنة فقال : " مسورون بالذهب والفضة ، مُكَلَّلة بالدّر ، وعليهم أكاليل من دُرّ وياقوت متواصلة ، وعليهم تاج كتاج الملوك ، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون " . {[24574]}
والضمير في { يدخلونها } عائد على الأصناف الثلاثة ، قالت عائشة : دخلوا الجنة كلهم ، وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم ، وفي رواية تحاكت مناكبهم ، وقال أبو إسحاق السبيعي{[9727]} : أما الذي سمعت مذ ستين سنة فكلهم ناج ، وقال عبد الله بن مسعود : هذه الأمة يوم القيامة أثلاث ، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ثم يدخلون الجنة ، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة : هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله عز وجل : أدخلوهم في سعة رحمتي ، وقالت عائشة في كتاب الثعلبي : «السابق » من أسلم قبل الهجرة ، و «المقتصد » من أسلم بعدها ، و «الظالم » نحن ، وقال الحسن : «السابق » من رجحت حسناته ، و «المقتصد » من استوت سيئاته و «الظالم » من خفت موازينه ، وقال سهل بن عبد الله{[9728]} : «السابق » العالم ، و «المقتصد » المتعلم ، و «الظالم » الجاهل ، وقال ذو النون{[9729]} المصري ، «الظالم » الذاكر لله بلسانه فقط و «المقتصد » الذاكر بقلبه و «السابق » الذي لا ينساه ، وقال الأنطاكي : «الظالم » صاحب الأقوال ، و «المقتصد » صاحب الأفعال ، و «السابق » صاحب الأحوال ، وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال :
«كلهم في الجنة »{[9730]} ، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له{[9731]} » ، وقال صلى الله عليه وسلم : «أنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة{[9732]} » .
قال القاضي أبو محمد : أراد صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء رؤوس السابقين ، وقال عثمان بن عفان : سابقنا أهل جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جماعة ولا جمعة{[9733]} ، وقال عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه أن الضمير في { منهم } عائد على العباد و «الظالم لنفسه » الكافر والمنافق و «المقتصد » المؤمن العاصي و «السابق » التقي على الإطلاق ، وقالوا وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة { وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم }{[9734]} [ الواقعة : 12 ] والضمير في قوله { يدخلونها } على هذا القول خاص على الفريقين المقتصد والسابق الفرقة الظالمة في النار قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول ، وروي هذا القول عن ابن عباس ، وقال بعض العلماء قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله والمقتصد هو المعتدل في أموره لا يسرف في جهة من الجهات بل يلزم الوسط ، وقال صلى الله عليه وسلم : «خير الأمور أوساطها »{[9735]} ، وقالت فرقة -لا معنى لقولها- إن قوله تعالى : { الذين اصطفيناهم } الأنبياء والظالم منهم لنفسه من وقع في صغيرة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود من غير ما وجه ، وقرأ جمهور الناس «سابق بالخيرات » ، وقرأ أبو عمرو الجوني «سباق بالخيرات » ، و { بإذن الله } معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده ، وقوله تعالى : { ذلك هو الفضل الكبير } إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة ، وقال الطبري : السبق بالخيرات هو { الفضل الكبير } ، قال في كتاب الثعلبي جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث ، والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب ، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان ، وقرأ جمهور الناس «جناتُ » بالرفع على البدل من { الفضل } وقرأ الجحدري «جناتِ » بالنصب بفعل مضمر يفسره { يدخلونها } وقرأ زر بن حبيش «جنة عدن » على الإفراد ، وقرأ أبو عمرو وحده «يُدخَلونها » بضم الياء وفتح الخاء ، ورويت عن ابن كثير ، وقرأ الباقون «يَدخُلونها » بفتح الياء وضم الخاء ، و { أساور } جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، ويقال سُوار بضم السين ، وفي حرف أبي أساوير ، وهو جمع أسوار وقد يقال ذلك في الحلي ، ومشهور أسوار أنه الجيد الرمي من جند الفرس ، ويحلون معناه رجلاً ونساء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر{[9736]} ونافع «ولؤلؤاً » بالنصب عطفاً على { أساور } ، وكان عاصم في رواية أبي بكر يقرأ و «لوْلؤاً » بسكون الواو الأولى دون همز ، وبهمز الثانية ، وروي عنه ضد هذا همز الأولى ، ولا يهمز الثانية ، وقرأ الباقون «لؤلؤٍ » بالهمز وبالخفض عطفاً على { أساور } .
الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله : { ذلك هو الفضل الكبير } [ فاطر : 32 ] فإن مما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل لأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة ، { ورضوانٌ من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] .
ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً لبيان الفضل الكبير وقد بيّن بأعظم أصنافه . والمعنى واحد .
وضمير الجماعة في { يدخلونها } راجع إلى { الذين اصطفينا } [ فاطر : 32 ] المقسم إلى ثلاثة أقسام : ظالممٍ ، ومقتصدٍ ، وسابققٍ ، أي هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لأن المؤمنين كلهم مآلهم الجنة كما دلت عليه الأخبار التي تكاثرت . وقد روى الترمذي بسند فيه مجهولان عن أبي سعيد الخدري « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ فاطر : 32 ] قال : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة " . قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال أبو بكر بن العربي في « العارضة » : من الناس من قال : إن هذه الأصناف الثلاثة هم الذين في سورة الواقعة ( 8 10 ) : { أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون } وهذا فاسد لأن أصحاب المشأمة في النار الحامية ، وأصحاب سورة فاطر في جنة عالية لأن الله ذكرهم بين فاتحة وخاتمة فأما الفاتحة فهي قوله : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } [ فاطر : 32 ] فجعلهم مصطفَيْن . ثم قال في آخرهم { جنات عدن يدخلونها } [ فاطر : 33 ] ولا يصطفَى إلا من يدخل الجنة ، ولكن أهل الجنة ظالم لنفسه فقال : { فمنهم ظالم لنفسه } [ فاطر : 32 ] وهو العاصي والظالم المطلق هو الكافر ، وقيل عنه : الظالم لنفسه رفقاً به ، وقيل للآخر : السابق بإذن الله إنباء أن ذلك بنعمة الله وفضله لا من حال العبد ا ه .
وفي الإِخبار بالمسند الفعلي عن المسنْد إليه إفادة تقوي الحكم وصوَغ الفعل بصيغة المضارع لأنه مستقبل ، وكذلك صوغ { يحلون } وهو خبر ثانٍ عن { جنات عدن } . وتقدم نظيرها في سورة الحج فانظره .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر { ولؤلؤاً } بالنصب عطفاً على محل { أساور } لأنه لما جر بحرف الجر الزائد كان في موضع نصب على المفعول الثاني لفعل { يحلون } فجاز في المعطوف أن ينصب على مراعاة محل المعطوف عليه . وقرأه الباقون بالجر على مراعاة اللفظ ، وهما وجهان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{جنات عدن} تجري من تحتها الأنهار.
{يدخلونها} هؤلاء الأصناف الثلاثة.
{يحلون فيها من أساور من ذهب}... {ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: بساتين إقامة يدخلونها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب، الذين اصطفينا من عبادنا يوم القيامة.
"يُحَلّوْنَ فِيها مِنْ أساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ" يلبسون في جنات عدن أسورة من ذهب "وَلُؤْلُؤا وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ" يقول: ولباسهم في الجنة حرير.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر التّحلي فيها بالذهب واللؤلؤ ولبس الحرير وليس للرجال رغبة في هذه الدنيا في التحلي بذلك ولا لبس الحرير، اللهم إلا أن يكون للعرب رغبة في ما ذكر، فخرج الوعد لهم بذلك والترغيب في ذلك، وهو ما ذكر من الخيام فيها والقِباب والغُرُفات، وتلك أشياء تستعمل في حال الضرورة في الأسفار وعند عدم وجود غيره من المنازل والغُرف عند ضيق المكان، فأما في حال الاختيار ووجود غيره فلا، لكنه خرّج ذلك لما لهم في ذلك من فضل رغبة، ألا ترى أنهم قالوا: {فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب}؟ [الزخرف: 53] ذكروا ذلك لما لذلك عندهم فضل قدر ومنزلة ورغبة في ذلك.
أو ذكر هذا لهم في الجنة، أعني الذهب والفضة والحرير، وما ذكر ليس على أن هذا مما يشاهد بحاله، أو يماثله في الجوهر على التحقيق سوى موافقة الاسم؛ لما رُوي في الخبر أن فيها، يعني في الجنة (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) [البخاري 3244].
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نَبّهَ على أن دخولهم الجنة لا باستحقاقٍ بل بفضله، وليس في الفضل تمييز...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"،وقال: "[لا تشربوا في آنية الذهب والفضة] هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر تعالى أحوالهم، بين جزاءهم ومآلهم، فقال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن ذلك: {جنات} أي هي مسببة عن سبب السبق الذي هو الفضل، ويصح كونها بدلاً من الفضل لأنه سببها، فكان كأنه هو الثواب {عدن} أي إقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها.
{يدخلونها} أي الثلاثة أصناف، ومن دخلها لم يخرج منها؛ لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج على أن الضمير ل "الذين "ومن قال ل "عبادنا" خص الدخول بالمقتصد والسابق -هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الخاء، وعلى قراءة أبي عمرو بالبناء للمفعول يكون الضمير للسابق فقط، لأنهم يكونون في وقت الحساب على كثبان المسك ومنابر النور فيستطيبون مكانهم، فإذا دعوا إلى الجنة أبطأوا فيساقون إليها كما في آخر الزمر.
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال: {يحلّون فيها} أي يلبسون على سبيل التزين والتحلي.
{من أساور} ولما كان للإبهام ثم البيان مزيد روعة النفس، وكان مقصود السورة إثبات القدرة الكاملة لإثبات اتم الإبقاءين، شوق إلى الطاعة الموصلة إليه بأفضل ما نعرف من الحلية، فقال مبيناً لنوع الأساور: {من ذهب ولؤلؤاً}.
ولما كانت لا تليق إلى على اللباس الفاخر، قال معرفاً أنهم حين الدخول يكونون لابسين: {ولباسهم فيها حرير}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله: {ذلك هو الفضل الكبير}، فإن مما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت، وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل؛ لأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«عدن» بمعنى الاستقرار والثبات، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن. وعليه فإنّ «جنّات عدن» بمعنى «جنّات الخلد والدوام والاستقرار»، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم...