تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (15)

يقول تعالى : فلما ذهب{[15075]} به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك ، { وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } هذا فيه تعظيم لما فعلوه أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب ، وقد أخذوه من عند أبيه فيما يُظهرونه له إكراما له ، وبسطا وشرحًا لصدره ، وإدخالا للسرور عليه ، فيقال : إن يعقوب{[15076]} عليه السلام ، لما بعثه معهم ضمه إليه ، وقَبَّله ودعا له .

وقال{[15077]} السدي وغيره : إنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له ، إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه ، ثم شرعوا يؤذونه بالقول ، من شتم ونحوه ، والفعل من ضَرْب ونحوه ، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه فربطوه بحبل ودلوه فيه ، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشَتمه ، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه ، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة ، فسقط في الماء فغمره ، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه ، يقال لها : " الراغوفة " {[15078]} فقام فوقها .

قال الله تعال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } يقول تعالى ذاكرًا لطفه ورحمته وعائدته{[15079]} وإنزاله اليسر في حال العسر : إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق ، تطييبًا لقلبه ، وتثبيتًا له : إنك لا تحزن مما{[15080]} أنت فيه ، فإن لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا ، وسينصرك الله عليهم ، ويعليك ويرفع درجتك ، وستخبرهم{[15081]} بما فعلوا معك من هذا الصنيع .

وقوله : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } - قال [ مجاهد و ]{[15082]} قتادة : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } بإيحاء الله إليه .

وقال ابن عباس : ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك ، وهم لا يعرفونك ، ولا يستشعرون بك ، كما قال ابن جرير :

حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا صدقة بن عُبادة الأسدي ، عن أبيه ، سمعت ابن عباس يقول : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون ، قال : جيء بالصّواع ، فوضعه على يده ، ثم نقره فطن ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام : أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له " يوسف " ، يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب - قال : ثم نقره فطنّ - فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كَذب - قال : فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم . قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : لا نرى{[15083]} هذه الآية نزلت إلا فيهم : { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } {[15084]} .


[15075]:- في ت ، أ : "ذهب".
[15076]:- في ت ، أ : "يوسف".
[15077]:- في ت : "فذكر".
[15078]:- في أ : "الراغوف".
[15079]:- في ت : "وعائد به".
[15080]:- في ت ، أ : "فيما".
[15081]:- في ت ، أ : "وسيجزيهم".
[15082]:- زيادة من ت.
[15083]:- في ت : "فلا يرى" ، وفي أ : "فلا نرى".
[15084]:- تفسير الطبري (15/576).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (15)

وقوله تعالى : { فلما ذهبوا به } الآية ، أسند الطبري إلى السدي قال : ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة ، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه به فجعل لا يرى منهم رحيماً ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء ، فقال لهم يهوذا : ألم تعطوني موثقاً أن لا تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجب ، فجعلوا يدلونه فيتعلق بالشفير فربطوا يديه ونزعوا قميصه . فقال : يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب ، فقالوا : ادعُ الشمس والقمر والكواكب تؤنسك ؛ فدلوه حتى إذا بلغ نصف الجب ألقوه إرادة أن يموت ، فكان في الجب ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة يبكي ، فنادوه ، فظن أنهم رحموه ، فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فمنعهم يهوذا ، وكان يأتيه بالطعام .

وجواب { لما } محذوف تقديره : { فلما ذهبوا به وأجمعوا } أجمعوا ، هذا مذهب الخليل وسيبويه وهو نص لهما في قول امرىء القيس : [ الطويل ]

فلما أجزنا ساحية الحي وانتحى{[6590]} . . . . . . . . . ومثل هذا قول الله تعالى :

{ فلما أسلما وتله للجبين }{[6591]}- وقال بعض النحاة - في مثل هذا- : إن الواو زائدة - وقوله مردود لأنه ليس في القرآن شيء زائد لغير معنى{[6592]} .

و { أجمعوا } معناه : عزموا واتفق رأيهم عليه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم - في المسافر - «ما لم يجمع مكثاً »{[6593]} ، على أن إجماع الواحد قد ينفرد بمعنى العزم والشروع ، ويتصور ذلك في إجماع إخوة يوسف وفي سائر الجماعات - وقد يجيء إجماع الجماعة فيما لا عزم فيه ولا شروع ولا يتصور ذلك في إجماع الواحد .

والضمير في { إليه } عائد إلى يوسف . وقيل على يعقوب ، والأول أصح وأكثر ، ويحتمل أن يكون الوحي حينئذ إلى يوسف برسول ، ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم - وكل ذلك قد قيل - وقال الحسن : أعطاه الله النبوءة وهو في الجب .

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد .

وقرأ الجمهور : «لتنبئنهم » بالتاء ، وفي بعض مصاحف البصرة بالياء ، وقرأ سلام بالنون ، وهذا كله في العلامة التي تلي اللام .

وقوله : { وهم لا يشعرون } قال ابن جريج : وقت التنبيه إنك يوسف{[6594]} . وقال قتادة : لا يشعرون بوحينا إليه . قال القاضي أبو محمد : فيكون قوله : { وهم لا يشعرون } - على التأويل الأول - مما أوحي إليه - وعلى القول الثاني - خبر لمحمد صلى الله عليه وسلم .


[6590]:هذا صدر بيت، وهو بتمامه: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحــــــى بنا بطن خبت ذي حـقاف عقنقل والساحة: الفناء، والحي: القبيلة وجمعه أحياء، وانتحى: اعترض، والخبت: أرض مطمنة، والحقف من الرمل: المعوج (ويروى: "ركام" بدلا من "حقاف"، والعقنقل: المتداخل المتعقد، (ويروى البيت أيضا: ذي قفاف) وهي جمع قف وهو ما غلظ وارتفع من الأرض ولم يبلغ أن يكون جبلا بعضه في بعض.
[6591]:من الآية (103) من سورة (الصافات).
[6592]:هذا رأي أكثر الكوفيين، وقد قالوا بزيادة الواو في البيت، وفي آية (الصافات)، أما البصريون فيقدرون الجواب محذوفا، وتقديره في آية يوسف: "فلما ذهبوا به و ......... عظمت فتنتهم"، وقيل تقديره: "جعلوه فيها"، ورجح أبو حيان هذا إذ يدل عليه قوله تعالى: {وأجمعوا أن يجعلوه}. وقال بعض المفسرين: الجواب مثبت في الآية وليس محذوفا، وهو قولهم بعد ذلك: {قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق}. وعلى رأي من يرى أن الجواب محذوف يكون التقدير في آية (الصافات): "فازا وظفرا بما أحبا"، وفي البيت: "هصرت".
[6593]:الحديث في (الموطأ)، ولفظه فيه: (أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا)، ومن اللفظة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر)، رواه النسائي، والترمذي، والدارمي، وأبو داود، ومالك في الموطأ، وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة)، رواه مالك في الموطأ.
[6594]:أي: لا يشعرون وقت تنبيهك لهم أنك يوسف، فكلمة (وقت) ظرف للفعل (يشعرون)، ويكون هذا دليلا على نبوته في ذلك الوقت.