الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (15)

قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ } : يجوز في جوابها أوجه ، أحدها : أنه محذوفٌ ، أي : عَرَّفْناه وأَوْصَلْنا إليه الطمأنينة . وقدَّره الزمخشري : " فَعَلُوا به ما فَعَلوا مِن الأذى " وذكر حكايةً طويلة . وقدَّره غيرُه : عَظُمَتْ فِتْنَتُهم . وآخرون " جَعَلوه فيها " . وهذا أَوْلَى لدلالة الكلام عليه .

الثاني : أنَّ الجوابُ مثبتٌ ، وهو قولُه { قَالُواْ يَأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا } ، أي : لمَّا كان كيت وكيت قالوا . وهذا فيه بُعْدٌ لبُعْدِ الكلامِ مِنْ بعضه .

والثالث : أنَّ الجوابَ هو قولُه " وأَوْحَيْنا " والواو فيه زائدةٌ ، أي : فلمَّا ذهبوا به أَوْحَينا ، وهو رأيُ الكوفيين ، وجعلوا مِنْ ذلك قولَه تعالى :

{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ } [ الصافات : 103 ] ، أي : تَلَّه . وقوله : { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ } [ الزمر : 71 ] وقولَ امرئ القيس :

2753 فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى *** بنا بَطْنَ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنِقْلِ

أي : فلمَّا أَجَزْنَا انتحى . وهو كثيرٌ عندهم بعدَ " لَمَّا " .

وقوله : { أَن يَجْعَلُوهُ } مفعول " أَجْمعوا " ، أي : عَزَموا على أن يَجْعلوه ، أو عَزَموا أنْ يجعلوه ، لأنه يتعدى بنفسه وبعلى ، ف " أنْ " يُحْتمل أن تكونَ على حذف الحرف ، وأن لا تكون ، فعلى الأولِ يَحْتمل موضعَها النصبُ والجرُّ ، وعلى الثاني يتعيَّن النصبُ .

والجَعْل يجوز أن يكونَ بمعنى الإِلقاء ، وأن يكونَ بمعنى التصيير ، فعلى الأولِ يتعلَّق " في غيابة " بنفس الفعل قبله ، وعلى الثاني بمحذوفٍ . والفعلُ مِنْ قوله : " وأَجْمعوا " يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على ما قبله ، وأن يكون حالاً ، و " قد " معه مضمرةٌ عند بعضهم . والضمير في " إليه " الظاهر عَوْدُه على يوسف . وقيل : يعود على يعقوب .

وقرأ العامَّةُ : " لَتُنَبِّئنَّهُمْ " بتاء الخطاب . وقرأ ابن عمر بياء الغيبة ، أي : اللَّه تعالى . قال الشيخ : " وكذا في بعض مصاحف البصرة " وقد تقدَّم أن النَّقْطَ حادثٌ ، فإن قال : مصحفٌ حادثٌ غيرُ مصحفِ عثمان فليس الكلام في ذلك .

وقرأ سَلاَّم : " لنُنَبِّئَنَّهم " بالنون . و " هذا " صفةٌ لأَمْرهم . وقيل : بدلٌ . وقيل : بيان .

قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملةٌ حالية ، يجوز أن يكونَ العاملُ فيها " أَوْحَيْنا " / ، أي : أوحينا إليه من غير شعور بالوحي ، وأن يكونَ العاملُ فيها " لَنُنَبِّئَنَّهم " ، أي : تُخْبرهم وهم لا يعرفونك لبُعْد المدَّة وتغيُّرِ الأحوال .