السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (15)

وقوله تعالى : { فلما ذهبوا به } فيه إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به { وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب } ، أي : وعزموا على إلقائه فيها ولا بدّ من تقدير جواب ، وهو فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وهنا كذلك ، قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار : إن إخوة يوسف قالوا له : ما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فتصيد وتستبق ؟ قال : بلى . قالوا : فاسأل أباك أن يرسلك معنا قال يوسف : أفعل ، فدخلوا جميعاً على أبيهم وقالوا : يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا ، فقال يعقوب : ما تقول يا بنيّ ؟ قال : نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين واللطف فأحب أن تأذن لي ، وكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يكره مفارقته ويحب مرضاته ، فأذن له فأرسله معهم ، فلما خرجوا من عند أبيهم جعلوا يحملونه على رقابهم وأبوهم ينظر إليهم ، فلما بعدوا عنه وصاروا إلى الصحراء ألقوه على الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وأغلظوا له القول وجعلوا يضربونه فجعلوا كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به يضربه فلم ير منهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه ويا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وجعل يبكي بكاء شديداً ، فأخذه روبيل فجلد به الأرض ، ثم جلس على صدره وأراد قتله فقال له : مهلاً يا أخي لا تقتلني فقال له : يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام الكاذبة قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ، ولوى عنقه ، فاستغاث يوسف بيهوذا ، وقال له : اتق الله فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة ورقة ، فقال يهوذا : يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني ، فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه ، فجاؤوا به على بئر على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس ، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إِخوتاه ردّوا عليّ قميصي أستتر به في الجب فقالوا : ادع الشمس والقمر والكواكب تخلصك وتؤنسك فقال : إني لم أر شيئاً فألقوه فيها ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة كانت في البئر فقام عليها فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركته فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه ، فمنعهم يهوذا من ذلك وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال .

{ وأوحينا إليه } في الجب في صغره وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام في صغرهما ، وفي القصص أنّ إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرّد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ودفعه إبراهيم عليه السلام إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب ، فجعله يعقوب في تميمة علقها بيوسف فأخرجها جبريل وألبسه إياها { لتنبئنهم } ، أي : لتخبرنهم بعد هذا اليوم { بأمرهم } ، أي : بصنعهم { هذا وهم لا يشعرون } ، أي : أنك يوسف لعلوّ شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للهيئات كما قال تعالى : { فعرفهم وهم له منكرون } [ يوسف ، 58 ] والمقصود من ذلك تقوية قلبه وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة ، ويصير مستولياً عليهم ، ويصيرون تحت أمره ونهيه وقهره . روي أنهم لما دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم وهم له منكرون ودعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه وقلتم لأبيكم : أكله الذئب ، وقيل : لا يشعرون بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا ، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم وكانوا يقصدون قتله ، وقيل : إنّ المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى { وأوحينا إلى أمّ موسى } [ القصص ، 7 ] وقوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل ، 68 ] .