تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

يقول تعالى مخاطبًا المؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام ، وهو : الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله{[3178]} عز وجل ، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة . وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم ، فلهم فيه أسوة ، وَليَجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [ المائدة : 48 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " {[3179]} ثم بين مقدار الصوم ، وأنه ليس في كل يوم ، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله{[3180]} وأدائه ، بل في أيام معدودات . وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان ، كما سيأتي بيانه . وقد رُوي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا ، من كل شهر ثلاثة أيام - عن معاذ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم . وزاد : لم يزل هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ الله ذلك بصيام شهر رمضان .

وقال عباد بن منصور ، عن الحسن البصري : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } فقال : نعم ، والله لقد كُتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب{[3181]} علينا شهرًا كاملا وأياما معدودات : عددا معلوما . وروي عن السدي ، نحوه .

وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني عبد الله بن الوليد ، عن أبي الربيع ، رجل من أهل المدينة ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم . . " في حديث طويل اختصر منه ذلك{[3182]} .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عمن حدثه عن ابن عمر ، قال أنزلت : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ]{[3183]} } كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم [ الله ]{[3184]} عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، ومقاتل بن حَيّان ، والربيع بن أنس ، وعطاء الخراساني ، نحو ذلك .

وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني بذلك : أهل الكتاب . وروي عن الشعبي والسّدي{[3185]} وعطاء الخراساني ، مثله .


[3178]:في جـ: "خالصة لوجه الله تعالى".
[3179]:صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[3180]:في أ: "ليشق على النفوس فتضعف عن حكمه".
[3181]:في أ: "كما كتبه الله".
[3182]:عزاه الحافظ ابن حجر في الفتح (8/178) لابن أبي حاتم وقال: "في إسناده مجهول".
[3183]:زيادة من جـ.
[3184]:زيادة من جـ.
[3185]:في جـ: "عن السدي والشعبي".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 )

و { كتب } : معناه فرض . والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حالٍ إلى حال ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ . . . تَحْتَ العَجَاجٍ وَخَيْلٌ تَعْلِكُ اللُّجُمَا

أي خيل ثابتة ممسكة( {[1655]} ) ، ومنه قول الله تعالى : { إني نذرت للرحمن صوماً }( {[1656]} ) [ مريم : 26 ] أي إمساكاً عن الكلام ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

كأَنَّ الثُّريَّا عُلِّقَتْ في مَصَامها( {[1657]} ) . . . أي في موضع ثبوتها وامتساكها ، ومنه قوله( {[1658]} ) : [ الطويل ]

فَدَعْ ذَا وَسَلِّ الْهَمِّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ . . . ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا

أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت ، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام( {[1659]} ) والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك ، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق ، والكاف من قوله { كما } في موضع نصب على النعت ، تقديره كتباً كما ، أو صوماً كما( {[1660]} ) ، أو على الحال كأن الكلام : كتب علكيم الصيام مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم .

وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع على النعت للصيام ، إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته ب { كما } إذ لا تنعت بها إلا النكرات ، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول( {[1661]} ) .

واختلف المتأولون في موضع التشبيه( {[1662]} ) ، فقال الشعبي وغيره : المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى ، قال : «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره ، قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي » .

قال النقاش : «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي »( {[1663]} ) ، وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم آخر سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزايادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله( {[1664]} ) .

وقال السدي والربيع : التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولاً ، وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك( {[1665]} ) .

وقال عطاء : «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر - قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي بعض الطرق : ويوم عاشوراء - كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء ، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان » .

وقالت فرقة : التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق ، أي قد تقدم في شرع غيركم ، ف { الذين } عام في النصارى وغيرهم ، و { لعلكم } ترجّ في حقهم ، و { تتقون } قال السدي : معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك( {[1666]} ) ، وقيل : تتقون على العموم ، لأن الصيام كما قال عليه السلام : «جنة » ووجاء( {[1667]} ) وسبب تقوى ، لأنه يميت الشهوات .


[1655]:- أي: عن الجري والحركة.
[1656]:- من الآية (26) من سورة مريم.
[1657]:- تمامه: ............................... بِأمْرَاسِ كَتَّـانٍ عَلَى صُمِّ جَنْــدَلِ مصامها: موضعها ومكانها – وفي رواية (مصابها) والمعنى واحد، وأمراس كتان هي: حبال محكمة الفتل مصنوعة من الكتان وهو النبات المعروف. وصم جندل: أي حجارة صمّاء.
[1658]:- أي امرئ القيس، والبيت من معلقته المشهورة التي قالها عند ذهابه إلى قيصر ملك الروم يستجير به، وأولها: سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعْدَ ما كانَ أَقْصَــرَا وحَلَّت سُلَيْمَـى بَطْنَ ظَبْيٍ فَعَرْعَراً وقد روي البيت: "فدعها وسلّ الهمَّ إلخ" – والجسرة: الناقة العظيمة، والذمول: التي تسير سيرا لينا.
[1659]:- أي: وعن غير ذلك من كل ما يخل بالصيام من أنواع الشهوات والمحرمات.
[1660]:- في هذا بُعْد، من حيث تشبيه الصوم بالكتابة، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح إن كانت مصدرية، وإن كانت موصولة ففيه تشبيه الصوم بالمصوم، وهو لا يصح إلا على تأويل بعيد – البحر المحيط 2-29.
[1661]:- نحو هذا ما قيل في قوله تعالى: [وآية لهم الليل نسلخ منه النهار] وهو خلاف ما تقرر في النحو من وجوب التوافق بين النعت والمنعوت، ولذا حكم ابن عطية رحمه الله بضعف هذا القول.
[1662]:- يعني في عدده ووقته، أو في فرضه ووجوبه، أو في صفته وكيفيته. أو في مطلق الصوم وعمومه.
[1663]:- رواه البخاري في التاريخ والطبراني.
[1664]:- يعني أنهم اعتبروا الزيادة فيه شافعة لهم في نقله عن وقته بسبب الحرارة.
[1665]:- عند قوله تعالى: [أحل لكم ليلة الصيام الرّفث إلى نسائكم] الآية، وقيس هذا موضع خلاف في اسمه: قيل: اسمه قيس بن صرمة – وقيل: أبو قيس بن صرمة – وقيل: صرمة بن قيس. راجع (الإصابة وأسد الغابة).
[1666]:- كانوا في أول الإسلام إذا حان الإفطار يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنع عليهم الأكل والشرب، ثم إن رجلا من الأنصار كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا: فقال: (مالي آراك قد جهدت جهدا شديدا) قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما – وكان عمر رضي الله عنه قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله قوله: [أُحلّ لكم ليلة الصيام الرّفث إلى نسائكم] الآية.
[1667]:- كلاهما في الصحيح في حديث أبي هريرة: (الصيام جنة)، وفي حديث ابن مسعود: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).