تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗاۖ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (239)

وقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات ، والقيام بحدودها ، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل ، وهي حال القتال والتحام الحرب فقال : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا }{[4165]} أي : فصلوا على أي حال كان ، رجالا أو ركبانا : يعني : مستقبلي القبلة

وغير مستقبليها كما قال مالك ، عن نافع : أن{[4166]} ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها . ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها . قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه البخاري - وهذا لفظه{[4167]} - ومسلم ورواه البخاري أيضاً من وجه آخر عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : نحوه أو قريباً منه{[4168]} ولمسلم أيضاً عن ابن عمر قال : فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكباً أو قائماً تومئ إيماء{[4169]} .

وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله وكان نحو عرفة - أو عرفات - فلما واجهه حانت صلاة العصر قال : فخشيت أن تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء . الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد{[4170]} وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووَضْعِه الآصار والأغلال عنهم .

وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الآية : يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه . قال : وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح نحو ذلك وزادوا : يومئ برأسه أينما توجه{[4171]} .

ثم قال : حدثنا أبي حدثنا أبو غسان حدثنا داود - يعني ابن علية - عن مطرف عن عطية عن جابر بن عبد الله قال : إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه [ إيماء ]{[4172]} حيث كان وجهه فذلك قوله : { فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا }

وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك . وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه ، إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان ، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري - زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائذ - كلاهما عن بكير بن الأخنس الكوفي ، عن مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة {[4173]} وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي عن شعبة قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة ، فقالوا : ركعة وهكذا روى الثوري عنهم سواء .

وقال ابن جرير أيضا : حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا المسعودي حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله قال : صلاة الخوف ركعة واختار هذا القول ابن جرير .

وقال البخاري : " باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو " وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا . وبه قال مكحول - وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة حصن تسْتَر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا . قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها .

هذا لفظ البخاري{[4174]} ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره ، عليه السلام ، صلاة العصر يوم الخندق بعذر المحاربة إلى{[4175]} غيبوبة الشمس وبقوله عليه السلام ، بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة : " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " ، فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا تعجيل السير ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة فلم يعنف واحداً{[4176]} من الفريقين . وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء ووردت{[4177]} بها الأحاديث لم تكن مشروعة في غزوة الخندق ، وإنما شرعت بعد ذلك . وقد جاء مصرحاً بهذا في حديث أبي سعيد وغيره وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك ؛ لأن هذا حال نادر خاص فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر ، والله أعلم .

وقوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } أي : أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا{[4178]} ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها { كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } أي : مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة ، فقابلوه بالشكر والذكر ، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [ النساء : 103 ] وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } الآية [ النساء : 102 ] .


[4165]:في جـ: "وإن" وهو خطأ.
[4166]:في جـ: "عن".
[4167]:صحيح البخاري برقم (4535).
[4168]:صحيح البخاري برقم (943).
[4169]:صحيح مسلم برقم (839).
[4170]:المسند (3/496) وسنن أبي داود برقم (1249).
[4171]:في أ: "إيماء بوجه".
[4172]:زيادة من و.
[4173]:صحيح مسلم برقم (687) وسنن أبي داود برقم (1247) وسنن النسائي (1/226، 3/118، 119، 169) وسنن ابن ماجة برقم (1068) وتفسير الطبري (5/247).
[4174]:صحيح البخاري (2/434).
[4175]:في جـ، و: "إلى بعد".
[4176]:في جـ: "أحدا".
[4177]:في جـ: "وورد".
[4178]:في جـ: "وأتموا".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗاۖ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (239)

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 239 )

أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت ، وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح ، وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة . ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحياناً ، فرخص لعبيده في الصلاة رجالاً متصرفين على الأقدام ، و { ركباناً } على الخيل والإبل( {[2325]} ) ، ونحوه إيماء وإشارة بالرأس حيث ما توجه ، هذا قول جميع العلماء وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو عدو يتبعه أو سيل يحمله ، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية ، وأما صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية( {[2326]} ) ، وفرق مالك رحمه الله بين الخوف ، العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه بأن استحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء ، وقوله تعالى { فرجالاً } هو جمع راجل أو رجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلاً إذا عدم المركب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل ، ورجُل بضم الجيم وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجُلاً ، حكاه الطبري وغيره ورجلان ورجيل ، ورجل وأنشد ابن الأعرابي في رجلان : [ الطويل ]

عليَّ إذا لاقيت ليلى بخلوة . . . أن ازدار بيت الله رجلان حافيا( {[2327]} )

ويجمع على رِجال ورجيلى ورُجَالى ورُجَّالى ورَجَّالة ورُجَّال ورَجَالي ورُجْلان وَرَجْلة ورِجْلة ورِجَلة بفتح الجيم وأرجِلة وأراجلِ وأراجيل ، والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضاً على رجال ، فهذه الآية وقوله تعالى : { يأتوك رجالاً }( {[2328]} ) [ الحج : 27 ] هما من لفظ الرجلة أي عدم المركوب ، وقوله تعالى { شهيدين من رجالكم }( {[2329]} ) [ البقرة : 282 ] فهو جمع اسم الجنس المعروف ، وحكى المهدوي عن عكرمة وأبي مجلز أنهما قرآ " فرُجَّلاً " ، بضم الراء وشد الجيم المفتوحة ، وعن عكرمة أيضاً أنه قرأ " فرُجَالاً " بضم الراء وتخفيف الجيم ، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قرأ " فرُجَّلاً " دون ألف على وزن فعل بضم الفاء وشد العين( {[2330]} ) ، وقرأ جمهور القراء " أو ركباناً «وقرأ بديل بن ميسرة »( {[2331]} ) " فرجالاً فركباناً " بالفاء ، والركبان جمع راكب ، وهذه الرخصة في ضمنها بإجماع من العلماء أن يكون الإنسان حيث ما توجه من السموت( {[2332]} ) ، ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه . واختلف الناس كم يصلى من الركعات . فمالك رحمه الله وجماعة من العلماء لا يرون أن ينقص من عدد الركعات شيئاً ، بل يصلي المسافر ركعتين ولا بد . قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما : يصلي ركعة إيماء . وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة .

وقال الضحاك بن مزاحم : يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين ، وقال إسحاق بن راهويه : فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ، ذكره ابن المنذر( {[2333]} ) .

واختلف المتألون في قوله تعالى : { فإذا أمنتم فاذكروا الله } الآية ، فقالت فرقة : المعنى فإذا زال خوفكم الذي أجاءكم( {[2334]} ) إلى هذه الصلاة فاذكروا الله بالشكر على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإحزاء ولم تفتكم صلاة من الصلوات ، وهذا هو الذي لم يكونوا يعلمونه وقالت فرقة : المعنى فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد ، كأنه قال : فمتى كنتم على أمن فاذكروا الله ، أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي فصلوا كما علمكم صلاة تامة ، حكاه النقاش وغيره .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقوله على هذا التأويل { ما لم تكونوا } بدل من { ما } التي في قوله { كما } ، وإلا لم يتسق لفظ الآية ، وعلى التأويل الأول { ما } مفعولة ب { علمكم } ، وقال مجاهد : «معنى قوله { فإذا أمنتم } ، فإذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة »( {[2335]} ) ، ورد الطبري على هذا القول( {[2336]} ) ، وكذلك فيه تحويم على المعنى كثير ، والكاف في قوله { كما } للتشبيه بين ذكر الإنسان لله ونعمة الله عليه في أن تعادلا ، وكان الذكر شبيهاً بالنعمة في القدر وكفاء لها ، ومن تأول { اذكروا } بمعنى صلوا على ما ذكرناه فالكاف للتشبيه بين صلاة العبد والهيئة التي علمه الله .


[2325]:- الراكب: راكب البعير، وراكب الفرس، وقد يطلق الراكب عليهما معاً.
[2326]:- يأتي حكم ذلك في سورة النساء، والحاصل أن الحكم المذكور هنا هو في صلاة السيف، وفيما يأتي في صلاة الخوف.
[2327]:- ازداره: زاره.
[2328]:- من الآية (27) من سورة (الحج).
[2329]:- من الآية (282) من سورة (البقرة).
[2330]:- وقرئ أيضا: (فرَجْلا) بفتح الراء وسكون الجيم، ومن ذلك قولهم، أغار عليهم بخيله ورَجْله، فجملة القراءات خمسز
[2331]:- لعلّه بديل بن ميسرة العقيلي البصري العابد الزاهد المتوفي سنة 130هـ. ومن كلامه: من أراد بعلمه وجه الله أقبل الله عليه بوجهه، وأقبل بقلوب العباد إليه، ومن عمل لغير الله تعالى صرف عنه وجهه، وصرف قلوب العباد عنه.
[2332]:- جمع سَمْتٍ بمعنى الطريق – أي أنه في هذه الحالة لا يجب عليه سَمْتٌ معين فأينما ولى وجهه فثمَّ وجه الله.
[2333]:-هذا مما يدل على قيمة الصلاة عند الله، وعظيم قدرها، وأنها لا تسقط بحال من الأحوال. لا في حال الخوف، ولا في حال المرضى، وأنها تُؤَدَّى ولو بتكبيرة، ولو بإشارة، وهذا فصل ما بينها وبين غيرها من سائر العبادات فإنها تسقط بالأعذار، والصلاة لا يرخص في تركها أبدا، ذلك أنها دعاء وحالة الخوف أولى بالدعاء كما قال تعالى: [واستعينوا بالصبر والصلاة]. وأيضا فهي قوة معنوية ويجب على الخائف أن يعد قوته المادية وقوته المعنوية كما قال تعالى: [وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة] أي مادية ومعنوية.
[2334]:- أي ألجأكم إلى الصلاة رجالا وركبانا كيفما تيسّر لكم وحيثما توجهتم.
[2335]:- لأن السفر مظنة الخوف، والإقامة مظنة الأمن، والمعنى: فإذا زال خوفكم فاذكروا الله كما علمكم، أي حافظوا على شروطها وأركانها، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة النساء: [فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة] إلخ.
[2336]:- قال: إنه لم يجسر ذكر للسفر في هذه الآية، ولو جرى له ذكر لقيل: «فإذا أقمتم»، بدل «فإذا أمنتم»، وأيضا فإنه يجب أداء الصلاة في السفر تامة بركوعها وسجودها وقيامها، إلا أن مجاهدا رحمه الله حرم على هذا المعنى تحريما كثيراً.