اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗاۖ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (239)

فصل في صلاة الخوف

صلاة الخوف قسمان :

أحدهما : حال القتال مع العدو ، وهي أقسام :

أحدها : حال التحام الحرب ، وهو المذكور في هذه الآية ، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [ 102 ] والقتال إمَّا واجبٌ ، أو مباحٌ ، أو محظورٌ .

فالواجب : كالقتال مع الكفار ، وهو الأصل في صلاة الخوف ، وفيه نزلت الآية ، ويلحق به قتال أهل البغي ، بقوله تعالى : { فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ } [ الحجرات :9 ] .

والمباح : كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه ؛ فإنه يجب الدفع ، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم ، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف .

وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف ؛ لأن هذا رخصةٌ ، والرخصة إعانة ؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة .

القسم الثاني : في الخوف الحاصل في غير القتال ، كالهارب من الحرق ، أو الغرق ، أو السَّبع ، أو المطالبة بدينٍ ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف ؛ لأن قوله تعالى : " فَإنْ خِفْتُمْ " مطلقٌ يتناول الكلَّ ، فإن قيل : المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة .

قلنا : سلمنا ذلك ، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك ، لدفع الضَّرر ، وهذا المعنى قائمٌ هنا ، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا .

فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف

ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم .

وروى مجاهد ، عن ابن عباسٍ قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السَّفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة{[3980]} .

وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال ، وضرب الناس بعضهم بعضاً ، فقل سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، واذكر الله فتلك صلاتك{[3981]} .

فصل

قال القرطبي{[3982]} : والمقصود من هذه الآية ، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، ولا تسقط بحالٍ ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها ، وبهذا تميزت عن باقي العبادات ؛ لأنها تسقط بالأعذار .

قال ابن العربيّ : ولهذا قال علماؤنا : إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحالٍ ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ ، ولا مالٍ ، فيقتل تاركها كالشهادتين .

قوله : " فَإِذَا أَمِنتُمْ " يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة { فَاذْكُرُواْ اللهَ } أي : فصلُّوا الصلوات الخمس . والصلاة قد تسمَّى ذكراً ، قال تعالى :

{ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ } [ الجمعة :9 ] . وقيل : { فَاذْكُرُواْ اللهَ } أي : فاشكروه ؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن .

وطعن القاضي{[3983]} في هذا القول ؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف ، كما يلزم مع الأمن ؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين .

وقيل : إنَّ قوله تعالى : { فَاذْكُرُواْ اللهَ } يدخل تحته الصلاة ، والشكر جميعاً .

قوله : " كَمَا عَلَّمَكُم " الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف ، وهو الظاهر ، ويجوز فيها أن تكون للتعليل ، أي : فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ ، و " مَا " يجوز أن تكون مصدريةً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون بمعنى " الَّّذِي " ، والمعنى : فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة ، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن . قال ابن عطيَّة : " وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله : " مَا لَمْ تَكُونُوا " بدلاً من " مَا " في " كَمَا " وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية " قال أبو حيان : " وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ ، وأحسن منه أن يكون " مَا لَمْ تَكُونُوا " بدلاً من الضمير المحذوف في " عَلَّمَكُم " العائد إلى الموصول ؛ إذ التقدير : عَلَّمَكُمُوهُ ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز : ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ " [ أي : رَأَيْتُهُ أَخَاكَ ] ، ف " أَخَاكَ " بدلٌ من العائد المحذوف " .


[3980]:- أخرجه مسلم (1/478) كتاب صلاة المسافرين باب صلاة المسافرين (5/687) وأبو داود (2/17) رقم (1247) والنسائي (1/226) والبيهقي (3/263-264) وأحمد (2177- شاكر) والطبري في تفسيره (5/247).
[3981]:- ينظر: تفسير البغوي 1/222.
[3982]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/148.
[3983]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/133.