البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗاۖ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (239)

الركوب : معروف ، وركبان : جمع راكب ، وهو صفة استعملت استعمال الأسماء ، فحسن أن يجمع جمع الأسماء ، ومع ذلك فهو في الأسماء محفوظ قليل ، قالوا : حاجر وحجران ، ومثل ، ركبان : صحبان ، ورعيان ، جمع صاحب وراع ، فإن لم تستعمل الصفة استعمال الأسماء لم يجيء فيها فعلان ، لم يرد مثل : ضربان وقتلان في جمع : ضارب وقاتل .

{ فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } لما ذكر المحافظة على الصلوات ، وأمر بالقيام فيها قانتين ، كان مما يعرض للمصلين حالة يخافون فيها ، فرخص لهم في الصلاة ماشين على الأقدام ، وراكبين .

والخوف يشمل الخوف من : عدّو ، وسبع ، وسيل وغير ذلك ، فكل أمر يخاف منه فهو مبيح ما تضمنته الآية هذه .

وقال مالك : يستحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر الفقهاء على تساوي الخوف .

و : رجالاً ، منصوب على الحال ، والعامل محذوف ، قالوا تقديره : فصلوا رجالاً ، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول ، أي : فحافظوا عليها رجالاً ، ورجالاً جمع راجل ، كقائم وقيام ، قال تعالى : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً } وقال الشاعر :

وبنو غدانة شاخص أبصارهم***

يمشون تحت بطونهنّ رجالاً

والمعنى : ماشين على الأقدام ، يقال منه : رجل يرجل رجلاً ، إذا عدم المركوب ، ومشى على قدميه ، فهو راجل ورجل ورجل ، على وزن رجل مقابل امرأة .

وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون : مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً ، ويقال رجلان ورجيل ورجل ، قال الشاعر :

عليّ إذا لاقيتُ ليلى بخلوة***

أن ازدار بيت الله رجلان حافياً

قالوا : ويجمع على : رجال ورجيل ورُجالي ورجالى ورجالة ورجلان ورَجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل ؛ قرأ عكرمة ، وأبو مجلز : فرُجَّالاً ، بضم الراء وتشديد الجيم ، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء ، وقرئ : فرجلاً ، بضم الراء وفتح الجيم مشدودة بغير ألف ؛ وقرئ : فرجلا ، بفتح الراء وسكون الجيم .

وقرأ بديل بن ميسرة : فرجالاً فركباناً بالفاء ، وهو جمع راكب .

قال الفضل : لا يقال راكب إلاَّ لصاحب الجمل ، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس ، ولراكب الحمار حمَّار ، ولراكب البغل بغَّال ، وقيل : الأفصح أن يقال : صاحب بغل ، وصاحب حمار .

وظاهر قوله : { فإن خفتم } حصول مطلق الخوف ، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة في هاتين الحالتين .

وقالوا : هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة أو ما يشبهه ، وأما صلاة الخوف بالإمام ، وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية .

وقيل : فرجالاً ، مشاة بالجماعة لأنهم يمشون إلى العدو في صلاة الخوف ، أو ركباناً أي : وجداناً بالإيماء .

وظاهر قوله : فرجالاً ، أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون ، فيصلون على كل حال ، والركب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة ، وهو قول الشافعي ؛ وقال أبو حنيفة : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف .

ولم تتعرض الآية لعدد الركعات في هذا الخوف ، والجمهور أنها لا تقصر الصلاة عن عدد صلاة المسافر إن كانوا في سفر تقصر فيه ، وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : تصلى ركعة إيماء .

وقال الضحاك بن مزاحم : تصلى في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين .

وقال إسحاق : فإن لم يقدر إلاَّ على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ، ولو رأوا سواداً فظنوه عدوّاً ثم تبين أنه ليس بعدو ، فقال أبو حنيفة : يعيدون .

وظاهر الآية : أنه متى عرض له الخوف فله أن يصلي على هاتي الحالتين ، فلو صلى ركعة آمناً ثم طرأ له الخوف ركب وبنى ، أو عكسه : أتم وبنى ، عند مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال المزني .

وقال أبو حنيفة : إذا استفتح آمناً ثم خاف ، استقبل ولم يبن فإن صلى خائفاً ثم أَمن بنى ؛ وقال أبو يوسف : لا يبنى في شيء من هذا كله .

وتدل هذه الآية على عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف ، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه ، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء ، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها .

{ فإذا أمنتم } قال مجاهد أي : خرجتم من السفر إلى دار الإقامة ، ورده الطبري ، قيل : ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار اقامته أمن ، فكان السفر مظنة الخوف ، كما أن دار الإقامة محل الأمن .

وقيل : معنى فإذا أمنتم أي : زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذه الصلاة .

وقيل : فإذا كنتم آمنين ، أي : متى كنتم على أمن قبل أو بعد .

.

{ فاذكروا الله } بالشكر والعبادة { كما علمكم } أي : أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمَن .

و : ما ، مصدرية ، و : الكاف ، للتشبيه .

أمر أن يذكروا الله تعالى ذكراً يعادل ويوازي نعمة ما علمهم ، بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة ، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك .

ومعنى : كما علمكم ، كما أنعم عليكم فعلمكم ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن التعليم ناشىء عن إنعام الله على العبد وإحسانه له .

وقد تكون الكاف للتعليل ، أي : فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي : يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم ، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم .

{ ما لم تكونوا تعلمون } ما : مفعول ثان لعلمكم ، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد ، وفي قوله : { ما لم تكونوا تعلمون } إفهام أنكم علمتم شيئاً لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه ، أي : أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا .

وحكى النقاش وغيره أن معنى : { فاذكروا الله } أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي : صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون : ما ، في : { كما علمكم } موصولة أي : فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم ، وعبر بالذكر عن الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين : الصلاة التي كانت أولاً قبل الخوف ، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن .

قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل : { ما لم تكونوا } بدل من : ما ، التي في قوله : كما ، وإلاَّ لم يتسق لفظ الآية . انتهى .

وهو تخريج يمكن ، وأحسن منه أن يكون بدلاً من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما ، إذ التقدير علمكموه ، أي : علمكم ما لم تكونوا تعلمون .

وقد أجاز النحويون : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي ضربته أخاك ، على البدل من الضمير المحذوف .

/خ242