مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗاۖ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (239)

قوله تعالى { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } .

اعلم أنه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها ، بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف ، فقال : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : يروى { فرجالا } بضم الراء و { رجالا } بالتشديد و { رجلا } .

المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله معنى الآية : فإن خفتم عدوا فحذف المفعول لإحاطة العلم به ، قال صاحب الكشاف : فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره ، وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف ، سواء كان الخوف من العدو أو من غيره ، وفيه قول ثالث وهو أن المعنى : فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالا أو ركبانا ، وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود .

المسألة الثالثة : في الرجال قولان أحدهما : رجالا جمع راجل مثل تجار وتاجر وصحاب وصاحب والراجل هو الكائن على رجله ماشيا كان أو وافقا ويقال في جمع راجل : رجل ورجالة ورجالة ورجال ورجال .

والقول الثاني : ما ذكره القفال ، وهو أنه يجوز أن يكون جمع الجمع ، لأن راجلا يجمع على راجل ، ثم يجمع رجل على رجال ، والركبان جمع راكب ، مثل فرسان وفارس ، قال القفال : ويقال إنه إنما يقال راكب لمن كان على جمل ، فأما من كان على فرس فإنما يقال له فارس ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : رجالا نصب على الحال ، والعامل فيه محذوف ، والتقدير : فصلوا رجالا أو ركبانا .

المسألة الخامسة : صلاة الخوف قسمان أحدهما : أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية والثاني : في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين .

إذا عرفت هذا فنقول : إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد ، فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم يصلون ركبانا على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يؤمئون بالركوع والسجود ، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر ، واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين الأول : قال ابن عمر : { فرجالا أو ركبانا } يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الوجه الثاني : وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال ، فصار قوله : { فرجالا أو ركبانا } يدل على الترخص في ترك التوجه ، وأيضا يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود ، فصح بما ذكرنا دلالة رجالا أو ركبانا على جواز ترك الاستقبال ، وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود .

إذا ثبت هذا فنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط ، فنقول : لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها : فعل القلب وهو النية ، وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك والثاني : فعل اللسان وهي القراءة ، وهي لا تسقط عند الخوف ، ولا يجوز له أيضا أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي ، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث : أعمال الجوارح فنقول : أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه ، وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما ، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع ، لأن هذا القدر ممكن ، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف ، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب ، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه ، والأصح أنه يجوز ، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم ، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك ، فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضا .

والجواب : أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل .

المسألة السادسة : اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول : الخوف إما أن يكون في القتال ، أو في غير القتال ، أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب ، أو مباح ، أو محظور ، أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف ، وفيه نزلت الآية ، ويلتحق به قتال أهل البغي ، قال تعالى : { فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله } وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر : أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه ، فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالا بحق الإسلام .

إذا عرفت هذا فنقول : أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم ، فإنه يجوز فيه صلاة الخوف ، أما قصد أخذ ماله ، أو إتلاف حاله ، فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف ، فيه قولان : الأصح أن يجوز ، واحتج الشافعي بقوله عليه السلام :« من قتل دون ماله فهو شهيد » فدل هذا على أن الدفع عن المال كالدفع عن النفس والثاني : لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم ، أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف ، لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة ، أما الخوف الحاصل لا في القتال ، كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسرا خائفا من الحبس ، عاجزا عن بينة الإعسار ، فلهم أن يصلوا هذه الصلاة ، لأن قوله تعالى : { فإن خفتم } مطلق يتناول الكل .

فإن قيل : قوله : { فرجالا أو ركبانا } يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة .

قلنا : هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعا للضرر ، وهذا المعنى قائم ههنا ، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعا والله أعلم .

المسألة الرابعة : روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، والجمهور على أن الواجب في الحضر أربع ، وفي السفر ركعتان سواء كان في الخوف أو لم يكن ، وأن قول ابن عباس متروك .

أما قوله تعالى : { فإذا أمنتم } فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة { فاذكروا الله كما علمكم } وفيه قولان الأول : فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } وكما بينه بشروطه وأركانه ، لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل ، والصلاة قد تسمى ذكرا لقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } .

والقول الثاني : { فاذكروا الله } أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن ، طعن القاضي في هذا القول وقال : إن هذا الذكر لما كان معلقا بشرط مخصوص ، وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعا على حد واحد ، ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر ، كما يلزم مع الأمن ، لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة ، والخوف ههنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى ، فالواجب حمل قوله تعالى : { فاذكروا الله } على ذكر يختص بهذه الحالة .

والقول الثالث : أنه دخل تحت قوله : { فاذكروا الله } الصلاة والشكر جميعا ، لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها .

أما قوله تعالى : { كما علمكم } فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف ، وأن ذلك من نعمه تعالى ، ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك ، ثم إن أصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل ، وفعل الألطاف ، وقوله تعالى : { ما لم تكونوا تعلمون } إشارة إلى ما قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من زمان الجهالة والضلالة .