ثم استثنى الله ، سبحانه من هؤلاء فقال : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي : إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة ، فاجعلوا حكمهم{[7973]} كحكمهم . وهذا قول السدي ، وابن زيد ، وابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان ، عن الحسن : أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأُحُد ، وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي - بني مُدْلج - فأتيته{[7974]} فقلت : أَنْشُدُك النعمة . فقالوا : صه{[7975]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوه ، ما تريد ؟ " . قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تَخْشُن{[7976]} قلوب قومك عليهم . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : " اذهب معه فافعل ما يريد " . فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، [ ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم ]{[7977]} فأنزل الله : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ }
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة ، وقال{[7978]} فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم{[7979]} وهذا أنسب لسياق الكلام .
وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ] } [ التوبة : 5 ] .
وقوله : { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ]{[7980]} } الآية ، هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم ، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي : ضيقة صدورهم مُبْغضين{[7981]} أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم ، بل هم لا لكم ولا عليكم . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } أي : من لطفه بكم أن كفهم عنكم { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : المسالمة { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا } أي : فليس لكم أن تقتلوهم ، ما دامت حالهم{[7982]} كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين ، فحضروا القتال وهم كارهون ، كالعباس ونحوه ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وعبّر{[7983]} بأسره .
كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل ، كرهط هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بن جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، فقضت هذه الآية بأنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل عليه ، وقال عكرمة والسدي وابن زيد : ثم لما تقوى الإسلام وكثر ناصروه نسخت هذه والتي بعدها بما في سورة براءة ، وقال أبو عبيدة وغيره : { يصلون } في هذا الموضع معناه ، ينتسبون ، ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ : أَبَكْر بْن وَائِلٍ *** وَبَكْرٌ سَبَتْهَا والأُنُوفُ رَوَاغِمُ{[4184]}
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا غير صحيح{[4185]} ، قال الطبري : قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً وهم قرابة السابقين إلى الإسلام يقتضي بأن قرابة من له ميثاق أجدر بأن تقاتل ، فإن قيل : إن النبي عليه السلام لم يقاتل قريشاً إلا بعد نسخ هذه الآية ، قيل : التواريخ تقضي بخلاف ذلك ، لأن الناسخ بهذه الآية هي سورة براءة ، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش .
وقوله تعالى : { أو جاءوكم } عطف على { يصلون } ، ويحتمل أن يكون على قوله : { بينكم وبينهم ميثاق } والمعنى في العطفين مختلف{[4186]} ، وهذا أيضاً حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام ، فكان المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالماً كارهاً لقتال قومه ، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه ، وهذه نسخت أيضاً بما في براءة . و { حصرت } : ضاقت وحرجت ، ومنه الحصر في القول ، وهو : ضيق الكلام على المتكلم ، وقرأ الحسن وقتادة «حصرة » كذا قال الطبري : وحكى ذلك المهدوي عن عاصم من رواية حفص ، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات » وفي مصحف أبيّ سقط { أو جاءوكم } ، و { حصرت } عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال بتقدير قد حصرت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف ، كقولك جاء زيد ركب الفرس ، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبراً آخر عن زيد ، لم تحتج إلى تقدير قد ، وإن أردت به الحال من زيد قدرته بقد ، قال الزجاج : { حصرت } خبر بعد خبر ، وقال المبرد : { حصرت } دعاء عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وقال بعض المفسرين : لا يصح هنا الدعاء ، لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم ، ذلك فاسد .
قال المؤلف : وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم ، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم ، أي هم أقل وأحقر ، ويستغنى عنهم ، كما تقول إذا أردت هذا المعنى : لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي أيضاً ، بمعنى استغنى عنه واستقل دونه ، واللام في قوله : { لسلطهم } جواب { لو } ، وفي قوله : { فلقاتلوكم } لام المحاذاة والازدواج ، لأنها بمثابة الأولى ، لو شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم ، فإذا قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها ، وقرأت طائفة «فلقتلوكم » وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم » بتشديد التاء ، والمعنى فإن اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل ، و { السلم } هنا الصلح ، قاله الربيع ، ومنه قول الطرماح بن حكيم :
وذاك أن تميماً غادرت سلماً . . . لللأسد كل حصان رعثة الكبد
وقال الربيع : { السلم } هاهنا الصلح ، وكذا قرأته عامة القراء ، وقرأ الجحدري «السلّم » بسكون اللام ، وقرأ الحسن «السّلِمْ » بكسر السين وسكون اللام ، فمعنى جملة هذه الآية ، خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم ، إلا من دخل منهم في عداد من { بينكم وبينه ميثاق } والتزم مهادنتكم أو من جاءكم وقد كره قتالكم وقتال قومه ، وهذا بفضل الله عليكم ودفاعه عنكم ، لأنه لو شاء { لسلط } هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المتاركة عليكم { فلقاتلوكم } ، فإن اعتزلوكم أي إذا وقع هذا فلم يقاتلوكم ، فلا سبيل لكم عليهم ، وهذا والذي في سورة الممتحنة من قوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين }{[4187]} منسوخ بما في سورة براءة ، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما .