تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِينَ أَن يَعۡمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ وَفِي ٱلنَّارِ هُمۡ خَٰلِدُونَ} (17)

يقول تعالى : ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له . ومن قرأ : " مسجد الله " فأراد به المسجد الحرام ، أشرف المساجد في الأرض ، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له . وأسسه خليل الرحمن هذا ، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر ، أي : بحالهم وقالهم ، كما قال السُّدِّي : لو سألت النصراني : ما دينك ؟ لقال : نصراني ، واليهودي : ما دينك ؟ لقال يهودي ، والصابئي ، لقال : صابئي ، والمشرك ، لقال : مشرك .

17

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِينَ أَن يَعۡمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ وَفِي ٱلنَّارِ هُمۡ خَٰلِدُونَ} (17)

وقوله تعالى { ما كان للمشركين } الآية{[5557]} ، معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا ، وهذا هو الذي نفى الله عز وجل وإلا فقد عمروا مساجده قديماً وحديثاً وتغلباً وظلماً ، وقرأ حماد بن أبي سلمة عن ابن كثير والجحدري «مسجد الله » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وقتادة وغيرهم «مساجد » بالجمع في الموضعين ، وقرأ ابن كثير أيضاً وأبو عمرو «مسجد » بالإفراد في هذا الموضع الأول و «مساجد » بالجمع في الثاني ، كأنه ذكر أولاً فيه النازلة ذلك الوقت ، ثم عمت المساجد ثانياً في الحكم الثابت ما بقيت الدنيا ، ولفظ الجمع يقتضي عموم المساجد كلها ، ويحتمل أن يراد به المسجد الحرام في الموضعين وحده على أن يقدر كل موضع سجود فيه مسجداً ثم يجمع ، ولفظ الإفراد في الموضعين يقتضي خصوص المسجد الحرام وحده ، ويحتمل أن يراد به الجنس فيعم المساجد كلها ولا يمنع من ذلك إضافته كما ذهب إليه من لا بصر له ، وقال أبو علي الثاني في هذه القراءة يراد به الأول وسائر المساجد كلها حكمها حكم المسجد الحرام ، وقوله { شاهدين على أنفسهم بالكفر } إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به ، وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ونحو ذلك ، وحكى الطبري عن السدي أنه قال : الإشارة إلى أن النصراني كان يقول أن نصراني واليهودي كذلك والوثني يقول أنا مشرك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا لم يحفظ ، ثم حكم الله تعالى عليهم بأن أعمالهم { حبطت } أي بطلت ولا أحفظها تستعمل إلا في السعي والعمل ، ويشبه أن يكون من الحبط وهو داء قاتل يأخذ السائمة إذا رعت وبيلاً وهو الذي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم » الحديث{[5558]} .


[5557]:- قيل في سبب نزول هذه الآية: إن العباس لما أسر وعيّر بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، فقال علي" ألكم محاسن؟ قال: "نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجاج، ونفكّ العاني"، فنزلت هذه الآية ردا عليه، ولهذا قال الزمخشري: معنى الآية: "ما صحّ وما استقام لهم ذلك"، وهذا هو معنى قول ابن عطية هنا: "ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا، وهذا هو الذي نفي الله عز وجل، وإلا فقد عمروا مساجده قديما وحديثا وتغلبا وظلما".
[5558]:- هذا جزء من حديث طويل رواه الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينزل عليه، قال: فمسح عنه الُّرَحَضاء فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلمّ، إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة).