ولهذا أخبر تعالى عما{[2980]} أعطاهم على ذلك فقال : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : ثناء من الله عليهم ورحمة .
قال سعيد بن جبير : أي أَمَنَةٌ من العذاب { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : نعم العدْلان ونعمت العلاوة { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذان العدلان { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } فهذه العلاوة ، وهي ما توضع بين العدلين ، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء ، أعطوا ثوابهم وزيدوا{[2981]} أيضًا .
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } الصلاة في الأصل الدعاء ، ومن الله تعالى التزكية والمغفرة . وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها . والمراد بالرحمة اللطف والإحسان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه " { وأولئك هم المهتدون } للحق والصواب حيث استرجعوا وسلموا لقضاء الله تعالى .
الإتيان باسم الإشارة في قوله : { أولئك عليهم صلوات من ربهم } للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة ، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وهذا بيان لجزاء صبرهم .
والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي من معاني الصلاة مجازاً في مثل قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] .
وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبىء عن محبة الخير لأحد ، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } [ البقرة : 3 ] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يُطلب الخير إلاّ منه متعيناً للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير ، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالةً على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية .
وقوله : { وأولئك هم المهتدون } بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لِمَا هو حقُّ كل عبْد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجباً عن التحقق في مقام الصبر ، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار ، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سبباً في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام ، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيَّ للَّه لما لَحِقَنا عذاب ومصيبة ، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذَّرنا الله أمْرَهم بقوله : { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وقال في المنافقين : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } [ النساء : 78 ] ، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة ، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية ، تعرض لعروض سببها ، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة ، وقد تكون لرفع درجات النفس ، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلاّ الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها ، ولله تعالى في الحالين لُطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولئك عليهم صلوات من ربهم}: يعني مغفرة، {من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} للاسترجاع.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أُولَئِكَ": هؤلاء الصابرون الذين وصفهم ونعتهم "عليهم"، يعني لهم "صلوات "يعني مغفرة. وصلوات الله على عباده: غفرانه لعباده، كالذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللّهُمّ صَلّ على آل أبي أوْفَى» يعني اغفر لهم.
"وَرَحْمَةٌ": ولهم مع المغفرة التي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها رحمة من الله ورأفة.
ثم أخبر تعالى ذكره مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه تسليما منهم لقضائه من المغفرة والرحمة أنهم هم المهتدون المصيبون طريق الحقّ والقائلون ما يرضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب. وقد بينا معنى الاهتداء فيما مضى فإنه بمعنى الرشد بالصواب... عن ابن عباس في قوله: "الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وإنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ "قال: أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ورجع واسترجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.
عن سعيد بن جبير، قال: ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة: الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وإنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ ولو أعطيها أحد لأُعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمع إلى قوله: يا أسَفَى عَلَى يُوسُفَ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(أولئك عليهم صلوات من ربهم)؛ ... وتحتمل الصلاة منه مباهاته الملائكة جوابا لهم لما (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) [البقرة: 30] كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا، وقيل: الصلاة منه الثناء عليهم، [وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء الله عليهم؟
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وجمع الصلوات لأنّه عنى بها إنها رحمة بعد رحمة. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} إلى الجنّة والثواب. وقيل: إلى الحقّ والصّواب. وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال: نعم العدلان ونعم العلاوة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الصلاة اسم مشترك المعنى فهي من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً}.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة، فالعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة الهداية...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والصلاة: الحنو والتعطف، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة. كقوله تعالى: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]، {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117]. والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة. ورحمة أيّ رحمة. {وَأُولَئِكَ هُمُ المهتدون} لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال: {عليهم صلوات} صلاة الله على عباده هي إقباله عليهم بعطفه إخراجاً لهم من حال ظلمة إلى رفعة نور، قال: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [الأحزاب: 43] فبصلاته عليهم إخراجهم من جهات ما أوقعهم في وجوه تلك الابتلاءات، فلذلك كان ذلك صلوات بالجمع ولم يكن صلاة ليعدد ما أصابهم منه عدد تلك الابتلاءات،
وفي قوله تعالى: {من ربهم} إشعار بتدريجهم في ذلك بحكم تربية وتدارك الأحوال ما أصابهم،
قال تعالى: {ورحمة} إفراد لمنالها لهم بعد متقدم الصلوات عليهم، فنالتهم الرحمة جمعاً حين أخرجتهم الصلوات أفراداً...
والذي يلوح لي أن أداة البعد في {أولئك} إشارة إلى علو مقامهم وعز مرامهم، ولذا عبر عن هدايتهم بالجملة الاسمية على وجه يفهم الحصر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والتكريرُ لإظهارِ كمالِ العناية بهم، وإما باعتبار حيازتِهم لما ذُكر من الصلوات والرحمة المترتبِ على الاعتبار الأول، فعلى الأول المرادُ بالاهتداء في قوله عز وجل: {هُمُ المهتدون} هو الاهتداءُ للحق والصواب مطلقاً لا الاهتداءُ لما ذكر من الاسترجاعِ والاستسلامِ خاصة، لما أنه متقدمٌ عليهما فلا بدّ لتأخيره عما هو نتيجةٌ لهما من داعٍ يوجبُه، وليس بظاهر. والجملة اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله كأنه قيل: وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حقَ وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى، وعلى الثاني هو الاهتداءُ والفوزُ بالمطالب، والمعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينيةِ والدنيويةِ فإن مَنْ نال رأفةَ الله تعالى ورحمتَه لم يفُتْه مَطلبٌ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر البلاء وبشر الصابرين عليه وذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة وختم القول ببيان الجزاء المبشر به وبالإجمال فقال {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} أي أولئك الصابرون المحتسبون عليهم من ربهم الرؤوف الرحيم ما يحول دون تبريح المصائب بهم من أنواع صلواته العامة ورحمته الخاصة، فأما الصلوات فالمراد بها أنواع التكريم والنجاح، وأعلاه المنزلة عند الله والناس...
وأما الرحمة فهي ما يكون لهم في نفس المصيبة من حسن العزاء، وبرد الرضى والتسليم للقضاء. فهي رحمة خاصة يحسد الملحدون عليها المؤمنين، فإن الكافر المحروم من هذه الرحمة في المصيبة تضيق عليه الدنيا بما رحبت، حتى أنه ليبخع نفسه إذا لم يعدله رجاء في الأسباب التي يعرفها وينتحر بيده ويكون من الهالكين
{وأولئك هم المهتدون} أي إلى ما ينبغي عمله في أوقات المصائب والشدائد إذ لا يستحوذ الجزع على نفوسهم، ولا يذهب البلاء بالأمل من قلوبهم، فيكونون هم الفائزون بخير الدنيا والراحة فيها، المستعدون لسعادة الآخرة بعلو النفس وتزكيتها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال، دون أهل الجزع وضعف الإيمان، كما يدل عليه الجملة الاسمية المعرفة الطرفين المؤكدة بضمير الفصل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ودلت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر، بضد حال الصابر. وأن هذا الابتلاء والامتحان، سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبيان أنواع المصائب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل:
(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون)..
صلوات من ربهم.. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه.. وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون..
وبعد.. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف.
إن الله يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصرا، ولا يعدهم هنا تمكينا، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات الله ورحمته وشهادته.. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها. فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية -حتى الرغبة في انتصار العقيدة- كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها.
إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة. وجزاء على القتل والشهادة.. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور..
هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
وكلنا نعيش برحمات الله، حتى الكافر يعيش على الأرض برحمة الله، ويأخذ أسباب حياته برحمة الله، والنعم والخيرات التي يعيش عليها تأتيه بسبب رحمة الله، والمؤمن يأخذ نعم الدنيا برحمة الله ويزيد الله له بالبركة والاطمئنان، والاطمئنان نعمة كبرى، فمن يعش في هذه الحياة وهو مطمئن إلى غاية أفضل من هذه الحياة، فهذا لون عظيم من الاطمئنان. فالصلاة من الله عطاء الرحمة والبركة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى، التّي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الامتحانات الإلهية: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (116).
هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة، يطرح القرآن مسألة الامتحان الكبير بأبعاده المختلفة، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.
في مجال الاختبار الإلهي تطرح بحوث كثيرة، وأوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الاختبار. فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار؟! وهل هناك شيء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الامتحان؟!
والجواب أن مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري.
اختباراتنا البشرية ـ هي كما ذكرت آنفاً ـ تستهدف رفع الإبهام والجهل، والاختبار الإلهي قصده «التربية».
في أكثر من عشرين موضعاً تحدث القرآن عن الاختبار الإلهي، باعتباره سنّة كونية لا تنقض من أجل تفجير الطاقات الكامنة، ونقلها من القوّة إلى الفعل، وبالتالي فالاختبار الإلهي من أجل تربية العباد، فكما أن الفولاذ يتخلص من شوائبه عند صهره في الفرن، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضمّ الحوادث، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.
الاختبار الإلهي يشبه عمل زارع خبير، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو، ثمّ تصارع هذه البذرة كل المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديد والحر اللافح، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهرة أو شجرة مثمرة، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.
ومن أجل تصعيد معنويات القوات المسلحة، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب اصطناعية، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحر والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة.
وهذا هو سرُّ الاختبارات الإِلهية.
يقول سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (ـ آل عمران، 154).
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في بيان سبب الاختبارات الإلهية: «... وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوابُ وَالْعِقَابُ».
أي أن الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلابدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عباده ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.
لو لم يكن الاختبار الإلهي لما تفجرت هذه القابليات، ولما أثمرت الكفاءات، وهذه هي فلسفة الاختبار الإلهي في منطق الإسلام.
نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبّر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإن كل البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الاختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.
الامتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدّتها وبالتالي تختلف نتائجها أيضاً، يقول سبحانه: (أَحَسِبُ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) (العنكبوت 2).
القرآن يعرض نماذج لاختبارات الأنبياء إذ يقول: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) (البقرة 124). ويقول في موضع آخر بشأن اختبار سليمان: (فَلَمّا رَءَاهُ مُسْتَقِراً عِنْدَهُ قَالَ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُونِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ...) (النمل، 40.).
ذكرت الآية أعلاه نماذج ممّا يختبر به الإنسان، كالخوف والجوع والأضرار المالية والموت... لكن سبل الاختبار الإلهي لا تنحصر بما تقدم فذكر القرآن منها في مواضع أخرى: البنين، والأنبياء، وأحكام الله، بل حتى بعض الوان الرؤيا: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ) (الأنبياء، 35). نعلم أن النّاس إزاء الاختبارات الإلهية على نوعين: متفوّق في الامتحان وخاسر.
فحيثما تسود حالة «الخوف» مثلا، ترى جماعة يتراجعون كي لا يصيبهم سوء، فينفضون أيديهم من المسؤولية، أو يلجؤون إلى المداهنة أو التماس الأعذار، كقولهم الذي يحكيه القرآن: (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائرَةٌ) (المائدة، 52.).
وثمة جماعة تقف كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، تزداد توكلا وإيماناً، وهؤلاء الذي يقول عنهم القرآن: (أَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران، 173).
وهكذا موقف النّاس من ألوان الامتحانات الأخرى، يعرض القرآن نماذج لموقف النّاجحين والفاشلين في الاختبار الإلهي، سنتناولها في مواضعها.
هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر، وهو أنه إذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للامتحان الإلهي، فما هو السبيل لإحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات أخرى:
. 1 ـ أهمّ عامل للانتصار أشارت إليه الآية بعبارة: (وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ)، فالآية تبشّر بالنجاح أُولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أن الصبر رمز الانتصار.
. 2 ـ الالتفات إلى أن نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الإدراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضاً عابراً وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: (إِنّا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
«كلمة الاسترجاع» هذه خلاصة كل دروس التوحيد، والانقطاع إلى الله، والاعتماد على ذاته المقدسة في كل شيء وفي كل زمان. وأولياء الله ينطلقون من هذا التعليم القرآني، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد، وكي يجتازوا مرحلة الاختبار بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه.
. 3 ـ الاستمداد من قوّة الإيمان والألطاف الإلهية عامل مهم آخر في اجتياز الاختبار دون اضطراب وقلق وفقدان للتوازن. فالسائرون على طريق الله يتقدّمون بخطوات ثابتة وقلوب مطمئنة لوضوح النهج والهدف لديهم. وترافقهم الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت، 69).
. 4 ـ التدقيق في تأريخ الأسلاف، وإمعان النظر في مواقفهم من الاختبارات الإلهية، عامل مؤثر في إعداد الإنسان لاجتياز الامتحان الإلهي بنجاح.
لو عرف الإنسان بأن ما أُصيب به ليس حالة شاذّة، وإنما هو قانون عام شامل لكل الأفراد والجماعات، لهان الخطب عليه، ولتفهم الحالة بوعي، ولاجتاز المرحلة بمقاومة وثبات. ولذلك يثبّت الله سبحانه على قلب نبيّه والمؤمنين باستعراض تأريخ الماضين، وما واجهه الأنبياء، والفئات المؤمنة من محن ومصائب خلال مراحل دعوتهم، يقول سبحانه: (وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُل مِنْ قَبْلِكَ). (الأنعام، 10). ويقول تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) (ـ الانعام، 34).
. 5 ـ الالتفات الى حقيقة علم الله سبحانه بكل مجريات الأمور، عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة.
المتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالارتياح حينما يعلمون أنهم في معرض أنظار أصدقائهم من المتفرجين، ويندفعون بقوّة أكثر في تحمل الصعاب.
إذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك، فما بالك بتأثير استشعار رؤية الله لما يجري على الانسان وهو على ساحة الجهاد والمحنة؟! ما أعظم القوّة التي يمنحها هذا الاستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمل مشاقّ المحنة!
حين واجه نوح (عليه السلام) أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) (هود، 37).
وعبارة «بِأَعْيُنِنَا» كان لها ـ دون شك ـ وقع عظيم في نفس هذا النّبي الكريم، فاستقام وواصل عمله حتى المرحلة النهائية دون الالتفات إلى تقريع الاعداء واستهزائهم.
الامتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن الله عبده بالخير وبوفور النعمة، كما يقول سبحانه: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء، 35). ويقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (النمل، 40).
وهنا ينبغي أن نشير إلى عدة مسائل:
أحدها: أنه ليس من الضروري أن يُخْتَبر جميع النّاس بجميع وسائل الاختبار، بل من الممكن أن يكون اختبار كل فئة بلون من الامتحان يتناسب مع الوضع الفردي والاجتماعي لتلك الفئة.
والأخرى: أنه من الممكن أن يجتاز الإنسان بعض الامتحانات، بينما يفشل في امتحانات أخرى.
وقد يكون امتحان فرد من الأفراد موضع امتحان فرد آخر، كأن يكون موت ولد لإنسان موضع امتحان أصدقائه وأقاربه، ليُرى مدى اتخاذهم موقف المواساة من صاحبهم.
وأخيراً، فالاختبار الإلهي ـ كما ذكرنا ـ شامل عام يدخل في نطاقه حتى الأنبياء (عليهم السلام)، بل إن اختبارهم بسبب ثقل مسؤوليتهم أشدّ بكثير من اختبار الآخرين.
القرآن الكريم يعرض صوراً لاختبارات شديدة مرّ بها الأنبياء (عليهم السلام) وبعضهم مرّ بمراحل طويلة شاقة قبل وصوله إلى مقام الرسالة، كي يكون على أتمّ الاستعداد لتحمل أعباء قيادة أُمّته.
وبين أتباع مدرسة الأنبياء نماذج رائعة للصابرين المحتسبين، كل واحد منهم قدوة على ساحة الامتحان الإِلهي.