تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ} (157)

الآية 157 وقوله : ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ) ؛ قيل : الصلاة من الله عز وجل تحتمل{[1801]} وجوها : تحتمل{[1802]} الرحمة والمغفرة ، وتحتمل{[1803]} الصلاة منه مباهاته الملائكة جوابا لهم لما ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] كيف قلتم هذا ؟ وفيهم من يقول كذا ، وقيل : الصلاة منه الثناء عليهم ، [ وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء الله عليهم ؟ ]{[1804]} .

وقوله : ( وأولئك هم المهتدون ) ؛ شهد الله عز وجل بالاهتداء لمن فوض أمره إلى الله ، ويسلم لقضائه{[1805]} وتقديره السابق ، وهو كائن لا محالة ، كقوله : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) [ الحديد : 22 ]

قال الشيخ ، رحمه الله : قوله : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف ) يبلوهم بالذي كان به عالما ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهي بحق المحنة ، وهو كما يستخبر{[1806]} عما هو به خبير ، مع ما كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات بكون الأمر والنهي [ فاستعملت في الأمر والنهي ]{[1807]} ، وإن كان لا يخفى عليه شيء ، بل هو كما قال : ( عالم الغيب والشهادة ) [ الأنعام : 73 و . . . ] ثم له جعل الغيب شاهدا ، فجرت به المحنة ليعلم ما قد علمه غائبا شاهدا ؛ إذ هو موصوف بذلك في الأزل ، وبالله التوفيق .

ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة ، فهو لله في الحقيقة ، بفضله وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ، ويأمره به ، فقال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية{[1808]} [ التوبة : 111 ] ، وقال : ( وأقرضوا الله قرضا حسنا ) الآية{[1809]} [ المزمل : 20 ] ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم ، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه . فعلى ذلك قال عز وجل : ( ولنبلونكم ) بالذي ذكر ؛ يدلهم على أن ذلك منه ليعلموا أنه ، فيما كان وعد الاشتراء منهم ، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم ، فيخف ذلك عليهم ، وتطيب{[1810]} به أنفسهم ، وأن يكون يذكروا أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا{[1811]} أنفسهم به ، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم ، فيضجرون عند الابتلاء بذلك ، وكذا خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول ، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يعلم به ، مع ما كان في ذلك خطر في القلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم . فقدم الله في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد ، وذلك كقوله : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ) الآية [ الحديد : 22 ] ، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس ، وتطمئن القلوب عليه .

والأصل في هذا : أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد ، بل هو امتنان من الله وإفضال منه ، وأنه لم ينشئه ، ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية . فعلى ذلك [ جميع ]{[1812]} ما أنعم عليه ، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه ، سهل عليه ذهابه ، وطابت به نفسه ، مع ما يعلم أنه أنعم عليه بوقت ، ثم هو نعمة [ له ]{[1813]} ولغيره ، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره ، وإن كان الله عز وجل ذكره بالابتلاء والمصائب ، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عز وجل ولا قوة إلا بالله .

ثم بين الله عز وجل ما يكرمهم ، [ إذ خنعوا لحكمه ]{[1814]} ، ورضوا بقضائه{[1815]} ، مع ما دل عليه أيضا بقوله : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ) الآية{[1816]} [ الأحزاب : 36 ] ، فقال : ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ، وقال في موضع آخر : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [ الزمر : 10 ] ، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرا . ومعلوم ، أن كان ذلك حقا لله عليهم بالسابق من نعمه مع عظم مننه ، لكنه سمى ما أفضل به أجرا له ، مع ما كان العبد يعمل لنفسه ، ولا يحتمل أن يستحق به الأجر ، لولا الإنعام منه ، جل ثناؤه .

ثم وعد له في حال فعله بخصال ثلاثة :

أحدها : أن عليه صلاته ، وصلاته تحتمل مباهاته [ الملائكة به ]{[1817]} تعظيما لما بذل عبده له ، وخضع لحكمه عليه ؛ وهو أن قالوا : ( ونحن نسبح بحمدك ) الآية{[1818]} [ البقرة : 30 ] ، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة ، وخضع لحكمه بالاسترجاع . وتحتمل مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله : ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة ) الآية{[1819]} [ آل عمران : 157 ] ، وقوله : ( يرزقون ) ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ) [ آل عمران : 169و 170 ] ، وقوله : ( هل أذلكم على تجارة تنجيكم ) [ الصف : 10 ] إلى ما ذكر من الأفضال ، والله الموفق . وتحتمل ثناءه وذكرهم في إخبار عباده كقوله : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا ) الآية{[1820]} [ آل عمران : 169 ] مع ما يرجى له من زيادة الهدى في الدنيا بقوله : ( والذين جاهدوا فينا ) الآية{[1821]} [ العنكبوت : 69 ] ، وقوله{[1822]} : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] .

[ والثانية : الرحمة ]{[1823]} : قد يرجع [ استرجاعه رحمة ، يكرمه بها ]{[1824]} وتحتمل محبة{[1825]} يلقيها في قلوب العباد حتى يُحبوه{[1826]} بها أو خلفا{[1827]} يعطيه في الدنيا .

[ والثالثة : الهداية ]{[1828]} : ثم شهد الله لهم بالهداية ؛ وذلك يحتمل أن يكونوا اهتدوا لدينه ولما من عليهم في المصيبة من التسليم لله ، ويحتمل الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء بقوله{[1829]} : ( ولا قوة إلا بالله ) [ الكهف : 39 ] ، وقوله : ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) [ التغابن : 11 ] للاسترجاع . وقد روي عن نبي الله أنه قال : " لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم [ عزاه زغلول في موسوعته إلى المسانيد 2/774 ] . فهو على ما بينا من القول به . وأما حق التسليم فقد كان في توقيت وقت الصبر ، ثم روي [ عن ]{[1830]} رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الصبر عند الصدمة الأولى " [ البخاري : 1383 ] .

وقد روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مصيبة ، وإن طال عهدها ، فيجدد لها العبد بالاسترجاع إلا جدد له ثوابها كلما{[1831]} استرجع " [ بنحوه ابن ماجه : 1600 ] ؛ فلعل هذا لمن أحسن القبول وقت المصيبة ؛ أو رجع عما فرط منه ، وتاب ، والأول في غير ذلك ، والله الموفق .

ثم في الآية وجوه من المعتبر :

أحدها : ما يلزم العبد من المصائب وما يستوجبه إذا وفى بما عليه .

والثاني : في ذلك بيان أن الصحة والأمن وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم في الحكمة ، لكنها إنعام من الله ، وله الابتلاء بأخذه ؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر في ذلك . والله الموفق .

والثالث : أن الله تعالى ذكر أنه بلا العباد بالذي ذكر .

ومعلوم أن ذلك يجري على أيدي العباد به{[1832]} ، فأضاف ذلك إلى نفسه . ثبت أن له في ذلك تدبيرا حتى يبلوهم به ، والله أعلم . وفيه أن الله تعالى قال : ( ونبلوكم ) [ الأنبياء : 35 ] بكذا ، ولم يكن كان يومئذ ، ثم كان ذلك ، وكذلك قوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم ) الآية{[1833]} [ البقرة : 214 ] ، ثم بلوا{[1834]} بذلك ليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بالله . وتبين أيضا أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ، ويقتضي القرار{[1835]} في الطبع لم يحتمل أن يجيزهم{[1836]} به لولا الأمر به وطاعة الله في ذلك .

وأيضا أنه ذكر الخوف ، فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد ؛ وكذلك قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) [ النساء : 101 ] فعلى ذلك الرجاء والطمع ؛ وجملته أن أمر الدنيا محمول كله على أسباب ؛ لا أنها توجب ، ولكن الله تعالى أجرى أحكامه عليها ، فيكون الخوف والرجاء في التحقيق من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سببا ، والله الموفق .

وأيضا أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الأيام ، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات ، [ لا تدل أيضا ]{[1837]} على وهن الاعتقاد{[1838]} ولا زلة{[1839]} بلا بها . وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل عليهم السلام ولكن على وجهين :

أحدهما : أن [ يكون ]{[1840]} الله تعالى يريد أن يحمي وليه لذات الدنيا لينالها موفورة في الآخرة .

والثاني : أن يكون لهم بعده زلات{[1841]} لا يسلم منها البشر ، فيبتلوا ، فيبعثوا يوم القيامة ، ولا زلة بقيت مما تجزيهم تلك ، ولا قوة إلا بالله . وإنما كذلك جعلت لمحنة{[1842]} .


[1801]:- في النسخ الثلاث: يحتمل.
[1802]:- في النسخ الثلاث يحتمل.
[1803]:- في النسخ الثلاث يحتمل.
[1804]:- من ط ع و م: ساقطة من الأصل.
[1805]:- من ط ع و م، في الأصل: قضاءه.
[1806]:- من ط ع و م، في الأصل: يستخير.
[1807]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[1808]:-أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[1809]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[1810]:-من ط ع، في الأصل و م: ويطلب.
[1811]:- من ط ع، في الأصل و م: ليطلبوا.
[1812]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1813]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1814]:- من ط ع، في الأصل و م: خصوا الحكمة.
[1815]:- في النسخ الثلاث: لقضائه.
[1816]:- أدرج في ط ع تتمة بدل هذه الكلمة.
[1817]:- في النسخ الثلاث: بالملائكة.
[1818]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[1819]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[1820]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[1821]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[1822]:- في م: كقوله.
[1823]:-في الأصل و م: رحمة، في ط ع: والثاني: الرحمة.
[1824]:- في النسخ الثلاث: رحمته هي التي أكرمته بذلك الاسترجاع.
[1825]:- في النسخ الثلاث: النعمة أو رحمة.
[1826]:- في النسخ الثلاث: يحبونه.
[1827]:- في النسخ الثلاث: خلف.
[1828]:- في ط ع: والثالث، ساقطة من الأصل و م.
[1829]:- في النسخ الثلاث: و.
[1830]:- من ط ع.
[1831]:- في النسخ الثلاث: بهم.
[1832]:- في النسخ الثلاث: بهم.
[1833]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[1834]:- من ط ع و م، في الأصل: يبلو.
[1835]:- من ط ع، في الأصل: الفوار، في م: الغوار.
[1836]:- في م: يخبرهم.
[1837]:- في الأصل: أيضا لا بد، في م و ط ع: أيضا لا يدل.
[1838]:- في النسخ الثلاث: عقد المصائب.
[1839]:- من ط ع و م، في الأصل: ذلة.
[1840]:- من ط ع.
[1841]:- من ط ع و م، في الأصل: ذلات.
[1842]:- أدرج بعدها في النسخ الثلاث: قال دل.