البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ} (157)

{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } ، أولئك مبتدأ ، وصلوات : ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور ، أي : أولئك مستقرة عليهم صلوات ، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد ، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ ، والجار والمجرور في موضع خبره .

والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول ، لأنه يكون إخباراً عن المبتدأ بالجملة .

والصلاة : من الله المغفرة ، قاله ابن عباس ؛ أو الثناء ، قاله ابن كيسان ، أو الغفران والثناء الحسن ، قاله الزجاج .

والرحمة : قيل هي الصلوات ، كررت تأكيداً لما اختلف اللفظ ، كقوله { رأفة ورحمة } وقيل : الرحمة : كشف الكربة وقضاء الحاجة .

وقال عمر : نعم العدلان ونعم العلاوة ، وتلا : { الذين إذا أصابتهم } الآية ، يعني بالعدلين : الصلوات والرحمة ، وبالعلاوة : الاهتداء .

وفي قوله : أولئك ، اسم الإشارة الموضوع للبعد دلالة على بعد هذه الرتبة ، كما جاء : { أولئك على هدى من ربهم } والكناية عن حصول الغفران والثناء بقوله : { عليهم صلوات } بحرف على ، إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك ، قد غشيتهم وتجللتهم ، وهو أبلغ من قوله لهم .

وجمع صلوات ، ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة ، بل صلاة بعد صلاة ، ونكرت لأنه لا يراد العموم .

ووصفها بكونها من ربهم ، ليدل بمن على ابتدائها من الله ، أي تنشأ تلك الصلوات وتبتدىء من الله تعالى .

ويحتمل أن تكون من تبعيضية ، فيكون ثم حذف مضاف ، أي صلوات من صلوات ربهم .

وأتى بلفظ الرب ، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به .

وإن كان أريد بالرحمة الصلوات ، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة ، لأنها قد تقيدت .

وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات ، فيقدر : ورحمة منه ، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم .

ويحتمل أن يكون : { من ربهم } ، متعلقاً بقوله : { عليهم } ، فلا يكون صفة ، بل يكون معمولاً للرافع لصلوات ، وترتب على مقام الصبر .

ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى ، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل .

وقد جاء في السنة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه » .

وفي حديث آخر : « من تذكر مصيبته ، فأحدث استرجاعاً ، وإن تقادم عهدها ، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب » .

وحديث أم سلمة مشهور ، حيث أخلفها الله عن أبي سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن جبير : ما أعطيَ أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة ، ولو أعطيها أحد قبلها لأعطيها يعقوب .

ألا ترى كيف قال حين فقد يوسف ؟ { يا أسفي على يوسف } { وأولئك هم المهتدون } : إخبار من الله عنهم بالهداية ، ومن أخبر الله عنه بالهداية فلن يضل أبداً .

وهذه جملة ثابتة تدل على الاعتناء بأمر المخبر عنه ، إذ كل وصف له يبرز في جملة مستقلة .

وبدئ بالجملة الأولى لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله ، وأخرت هذه لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة ، لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته .

وأكد بقوله : هم .

وبالألف واللام ، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل ، ليدل على الثبوت ، لأن الهداية ليست من الأفعال المتجددة وقتاً بعد وقت فيخبر عنها بالفعل ، بل هي وصف ثابت .

وقيل : المهتدون في استحقاق الثواب وإجزال الأجر .

وقيل : إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن .

وقيل : إلى الاسترجاع .

وقيل : إلى الحق والصواب ، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في اللفظ ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان ، ونظير هاتين الجملتين قوله { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } والكلام في إعراب : هم المهتدون ، كالكلام على : المفلحون ، وقد تقدم .

/خ157