قال ابن جرير : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } تقديره : ثم قل - يا محمد - مخبرًا عنا بأنا آتينا موسى الكتاب ، بدلالة قوله : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }
قلت : وفي هذا نظر ، وثُم هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر ، لا للترتيب هاهنا ، كما قال الشاعر :
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُم سَادَ أبوهُ *** ثُمّ قد سَادَ قَبْلَ ذَلكَ جَده{[11410]}
وهاهنا لما أخبر الله تعالى عن القرآن بقوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } عطف بمدح التوراة ورسولها ، فقال : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } وكثيرًا ما يقرن سبحانه{[11411]} بين ذكر القرآن والتوراة ، كقوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا } [ الأحقاف : 12 ] ، وقوله [ في ]{[11412]} أول هذه السورة : { قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } [ الآية : 91 ] ، وبعدها { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الآية [ الأنعام : 92 ] ، وقال تعالى مخبرًا عن المشركين : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [ القصص : 48 ] ، وقال تعالى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ] }{[11413]} [ الأحقاف : 30 ] .
وقوله تعالى : { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا } أي : آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تمامًا كاملا جامعا لجميع ما يحتاج إليه في شريعته ، كما قال : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } الآية [ الأعراف : 145 ] .
وقوله : { عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } أي : جزاء على إحسانه في العمل ، وقيامه بأوامرنا وطاعتنا ، كقوله : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] ، وكقوله { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ] }{[11414]} [ البقرة : 124 ] ، وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } يقول : أحسن فيما أعطاه الله .
وقال قتادة : من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة .
واختار ابن جرير أن تقديره الكلام : { [ ثُمَّ ] آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا }{[11415]} على إحسانه . فكأنه جعل " الذي " مصدرية ، كما قيل في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [ التوبة : 69 ] أي : كخوضهم وقال ابن رَوَاحة :
فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍ *** في المرسلين ونصرًا كالذي نُصِرُوا{[11416]}
وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى " الذين " .
قال ابن جرير : وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود : أنه كان يقرؤها : " تماما على الذين أحسنوا " .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } قال : على المؤمنين والمحسنين ، وكذا قال أبو عبيدة . قال البغوي : والمحسنون : الأنبياء والمؤمنون ، يعني : أظهرنا فضله عليهم .
قلت : كما قال تعالى : { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } [ الأعراف : 144 ] ، ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل ، عليهما السلام لأدلة أخر .
قال ابن جرير : وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يَعْمَر أنه كان يقرؤها . { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ } رفعا ، بتأويل : " على الذي هو أحسن " ، ثم قال : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، وإن كان لها في العربية وجه صحيح .
وقيل : معناه : تمامًا على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن الله إليه ، حكاه ابن جرير ، والبَغوي .
ولا منافاة بينه وبين القول الأول ، وبه جمع ابن جرير كما بيناه ، ولله الحمد .
وقوله : { وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } فيه مَدْحٌ لكتابه الذي أنزله الله عليه ، { لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }
{ ثم آتينا موسى الكتاب } عطف على { وصاكم } ، وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ؛ ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك { إنا آتينا موسى الكتاب } . { تماما } للكرامة والنعمة . { على الذي أحسن } على كل من أحسن القيام به ، ويؤيده إن قرئ " على الذين أحسنوا " أو " على الذي أحسن تبليغه " وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام ، أو " تماما على ما أحسنه " أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له . وقرئ بالرفع على أن خبر مبتدأ محذوف أي " على الذي هو أحسن " أو على الوجه الذي هو حسن ما يكون عليه الكتب . { وتفصيلا لكل شيء } وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر . { وهدى ورحمة لعلهم } لعل بني إسرائيل . { بلقاء ربهم يؤمنون } أي بلقائه للجزاء .
{ ثُمّ } هنا عاطفة على جملة : { قل تعالوا } [ الأنعام : 151 ] فليست عاطفة للمفردات ، فلا يُتوهَّم أنَّها لتراخي الزّمان ، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة ، وهو مهلة مجازيّة ، وتلك دلالة ( ثُم ) إذا عطفت الجُمَل . وقد استصعب على بعض المفسّرين مسلك ( ثُمّ ) في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه السّلام الكتاب ليس برتبة أهمّ من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام . وتعدّدت آراء المفسّرين في محمل ( ثُمّ ) هنا إلى آراء : للفراء ، والزجاج ، والزّمخشري ، وأبي مسلم ، وغيرهم ، كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق .
والوجه عندي : أنّ ( ثُمّ ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي ، وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب عن تلاوة ما حَرّم الله في القرآن ، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام ، إنَّما يظهر بعد النَّظر إلى المقصود من نظم الكلام ، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] ليرتّب عليه قوله : { أن تقولوا إنَّما أنْزِل الكتابُ على طائفتين من قبلنا } إلى قوله : { وهدى ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، فمعنى الكلام : وفوْق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السّلام ( وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله ) وما في القرآن : الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه ؛ إن اتَّبعتموه واتَّقيتم رَحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداءً من أهل الكتابين ، فهذا غرض أهمّ جمعاً لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن ، وأدْخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب .
ومناسبة هذا الانتقال : ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام ، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكَّرهم الله بأنَّه آتى موسى عليه السّلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ( 91 ) الآية ، في هذه السّورة ، لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه السّلام تمهيداً لذلك الغرض .
و{ الكتاب } هو المعهود ، أي التّوراة ، و { تماما } حال من الكتاب ، والتّمام الكمال ، أي كان ذلك الكتاب كمالاً لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم : من صلاح إبراهيم ، وما كان عليه إسحاق ويعقوبُ والأسباط عليهم السّلام ، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم ، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد ، وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح . ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المُتِمّ .
والموصول في قوله : { على الذي أحسن } مراد به الجنس ، فلذلك استوى مفرده وجمعه .
والمراد به هنا الفريق المحسن ، أي تماماً لإحسان المحسنين من بنِي إسرائيل ، فالفعل منزّل منزلة اللاّزم ، أي الذي اتَّصف بالإحسان .
والتّفصيل : التّبيين ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصّل الآيات } في هذه السّورة ( 55 ) .
و{ كلّ شيء } مراد به أعظم الأشياء ، أي المهمّات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدّين . فتكون ( كلّ ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدّم في قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } في سورة البقرة ( 145 ) . أو في معنى العظيم من الأشياء كأنَّه جمع الأشياء كلّها .
أو يراد بالشّيء : الشّيء المهمّ ، فيكون من حذف الصّفة ، كقوله : { يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] ، أي كلّ سفينة صالحة ، ومثله قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ] .
وقوله : { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } رجاء أن تؤمنوا بلقاء ربّهم ، والضّمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنو إسرائيل ، إذ قد علم من إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب أنّ المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل ، ومعنى ذلك : لعلّهم إن تحَرّوا في أعمالهم ، على ما يناسب الإيمانَ بلقاء ربّهم ، فإنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التّوراة ، ولكنّهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة : من أطوار مجاورة القبط ، وما لحقهم من المذلّة والتغرّب والخصاصة والاستعباد ، ما رفع منهم العلم ، وأذْوَى الأخلاق الفاضلة ، فنسوا مراقبة الله تعالى ، وأفسدوا ، حتّى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنَّه يلقى الله ، فأراد الله إصلاحهم ببعثة موسى عليه السّلام ، ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصّالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه ، والرّغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم . وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب ، فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح ، فدخل فيهم من أضلّهم ولقَّنهم الشّرك وإنكارَ البعث ، فأرسل الله إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ليردّهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربّهم .