تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

وقوله تعالى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ } أي : يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما ، كما في قوله : { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 48 ، 49 ] أي : هذا بذاك ، وهو{[13431]} الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ؛ ولهذا يقال : من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله ، عذب به . وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم ، عذبوا بها ، كما كان أبو لهب ، لعنه الله ، جاهدًا في عداوة الرسول ، صلوات الله [ وسلامه ]{[13432]} عليه{[13433]} وامرأته تعينه في ذلك ، كانت يوم القيامة عونًا على عذابه أيضا { فِي جِيدِهَا } أي : [ في ]{[13434]} عنقها { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [ المسد : 5 ] أي : تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه - كان - في الدنيا ، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها ، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة ، فيحمى عليها في نار جهنم ، وناهيك بحرها ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .

قال سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود : والله الذي لا إله غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارًا ، ولا درهم درهما ، ولكن يوسَّع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته{[13435]} {[13436]}

وقد رواه ابن مرْدُويه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، والله أعلم .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه ، وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك ! لا يدرك منه شيئا إلا أخذه .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن مَعْدَان بن أبي طلحة ، عن ثوبان أن نبي{[13437]} الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من ترك بعده كنزا مَثَل له يوم القيامة شُجاعًا أقرع له زبيبتَان ، يتبعه ، يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته{[13438]} بعدك ! ولا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فَيُقَصْقِصَها{[13439]} ثم يتبعها سائر جسده " .

ورواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث يزيد ، عن سعيد به{[13440]} وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه{[13441]}

وفي صحيح مسلم ، من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل{[13442]} يوم القيامة صفائح من نار يكوى{[13443]} بها جنبه وجبهته وظهره ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، ثم يَرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " وذكر تمام الحديث{[13444]} وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن حُصَيْن ، عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالرَّبَذة ، فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ، قال{[13445]} كنا بالشام ، فقرأت : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فقال معاوية : ما هذه فينا{[13446]} ما هذه إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم{[13447]} ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، فذكره وزاد : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليه ، قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني{[13448]} الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تَنَحَّ قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول{[13449]}

قلت : كان من مذهب أبي ذر ، رضي الله عنه ، تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي [ الناس ]{[13450]} بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، وأنزله بالربذة وحده ، وبها مات ، رضي الله عنه ، في خلافة عثمان . وقد اختبره معاوية ، رضي الله عنه{[13451]} وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ؟ فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت ، فهات الذهب ! فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك{[13452]} به .

وهكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها عامة :

وقال السدي : هي في أهل القبلة .

وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برَضْف يحمى عليه في

نار جهنم ، فيوضع على حَلمة ثَدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل - قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رَجَع إليه شيئا - قال : وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذَرّ : " ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثالثة وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين " {[13453]} فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن عبد الله بن الصامت ، رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية له ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا . قال : قلت : لو ادخرته للحاجة تَنُوبك وللضيف ينزل بك ! قال : إن خليلي عهد إليَّ أنْ أيما ذهب أو فضة أوكِي{[13454]} عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله ، عز وجل{[13455]} ورواه عن يزيد ، عن همام ، به وزاد : إفراغا{[13456]} وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته ، عن محمد بن مهدي : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي فَرْوَة الرّهاوي ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الق الله فقيرًا ولا تلقه غنيا " . قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال : " ما سُئِلتَ فلا تَمْنَع ، وما رُزقْت فلا تَخْبَأ " ، قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك وإلا فالنار " {[13457]} إسناده ضعيف .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عتيبة ، عن بريد بن أصرم{[13458]} قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : مات رجل من أهل الصُّفَّة ، وترك دينارين - أو : درهمين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيَّتان ، صلوا على صاحبكم " {[13459]}

وقد روي هذا من طرف أخر{[13460]}

وقال قتادة ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة صُدَي بن عَجْلان قال : مات رجل من أهل الصُّفَّة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيَّة " . ثم تُوفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان " {[13461]} وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي ، حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي ، حدثني أرطاة ، حدثني أبو عامر الهَوْزَني ، سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض ، إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن خداش ، حدثنا سيف بن محمد الثوري ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ، ولكن يُوَسَّع جلده فيكوى{[13462]} بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " {[13463]} سيف - هذا - كذاب ، متروك .


[13431]:- في ت ، د ، ك : "وهذا".
[13432]:- زيادة من أ.
[13433]:- في د ، ك : "صلى الله عليه وسلم".
[13434]:- زيادة من ك.
[13435]:- في أ : "جلده".
[13436]:- رواه الطبري في تفسيره (14/233) من طريق سفيان به.
[13437]:- في د : "رسول".
[13438]:- في أ : "كنزته".
[13439]:- في د ، أ : "فيقضمها".
[13440]:- تفسير الطبري (14/232) وصحيح ابن حبان برقم (803) "موارد" ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) من طريق بشر ابن معاذ به.
[13441]:- صحيح البخاري برقم (4659) ولم أعثر عليه في صحيح مسلم من هذا الطريق.
[13442]:- في د : "جعل له".
[13443]:- في ت : "فتكوى" ، وفي د ، أ : "فيكوى".
[13444]:- صحيح مسلم برقم (987).
[13445]:- في ت ، د ، ك ، أ : "فقال".
[13446]:- في ت ، د ، ك : "ما هذا".
[13447]:- صحيح البخاري برقم (4660).
[13448]:- في ت : "ولقيني".
[13449]:- تفسير الطبري (14/227).
[13450]:- زيادة من أ.
[13451]:- زيادة من أ : "عنهما".
[13452]:- في ت ، أ : "حاسبناه".
[13453]:- صحيح البخاري برقم (6444).
[13454]:- في أ : "أيما ذهبا وفضة أولى".
[13455]:- المسند (5/156).
[13456]:- المسند (5/175) وقال الهيثمي في المجمع (10/240) : "رجاله رجال الصحيح".
[13457]:- انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (28/168) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/390) في ترجمة الشبلي من طريق محمد بن مهدي المصري به.
[13458]:- في جميع النسخ : "عيينة عن يزيد بن الصرم" والتصويب من المسند.
[13459]:- المسند (1/101).
[13460]:- رواه أحمد في مسنده (1/137 ، 138) من طريق قطن بن نسير ومحمد بن عبيد وحبان بن هلال كلهم عن جعفر بن سليمان به نحوه ، وجاء من حديث عبد الله بن مسعود رواه أحمد في مسنده (1/412) ، وجاء من حديث سلمة بن الأكوع رواه أحمد في مسنده (4/47) من حديث طويل ، وجاء من حديث أبي هريرة رواه أحمد في مسنده (2/429).
[13461]:- رواه أحمد في مسنده (5/253) والطبري في تفسيره (14/222) من طريق قتادة به.
[13462]:- في ت : "فتكوى".
[13463]:- ورواه ابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي (4/179).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

{ يوم يُحمى عليها في نار جهنم } أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها ، وأصله تحمى بالنار فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير ، وإنما قال { عليها } والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه : أربعة آلاف وما دونها وما فوقها كنز . وكذا قوله تعالى : { ولا ينفقونها } وقيل الضمير فيهما للكنوز أو للأموال فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول ، أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم . { فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } لأن جمعهم وإمساكهم إياه كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية ، أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم ، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنباه . { هذا ما كنزتم } على إرادة القول . { لأنفسكم } لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها . { فذوقوا ما كنتم تكنزون } أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ { تكنزون } بضم النون .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

انتصب { يوم يحمى } على الظرفية لِ { عذاب } [ التوبة : 34 ] ، لما في لفظ عَذاب من معنى يُعذّبون . وضمير { عليها عائد إلى الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] بتأويلهما بالدنانير والدراهم ، أو عائد إلى { أمْوالَ الناس } [ التوبة : 34 ] و { الذهبَ والفضةَ } [ التوبة : 34 ] ، إن كان الضمير في قوله : { فبشرهم } [ التوبة : 34 ] عائداً إلى { الأحبار والرهبان والذين يكنزون } [ التوبة : 34 ] . m

والحَمْيُ شدّة الحرارة . يقال : حَمِيَ الشيء إذا اشتدّ حرّه .

والضمير المجرور بعلَى عائد إلى { الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] باعتبار أنّها دنانير أو دراهم ، وهي متعدّدة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلّق الغرض بالفاعل ، فكأنّه قيل : يوم يحمي الحَامون عليها ، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلّق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره : إذ هو النار التي تُحمى ، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث ، عُدّي بعلَى الدالّة على الاستعلاء المجازي لإفادة أنّ الحَمْي تمكّن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها ، ثم أكّد معنى التمكّن بمعنى الظرفية التي في قوله : { في نار جهنم } فصارت الأموال محمية عليها النارُ وموضوعة في النار . وبإضافة النار إلى جهنّم علم أنّ المحمي هو نار جهنّم التي هي أشدّ نار في الحرارة فجاء تركيباً بديعاً من البلاغة والمبالغةِ في إيجاز .

والكَيُّ : أن يوضع على الجلد جمرٌ أو شيء مشتعل .

والجِباه : جمع جَبْهَة وهي أعلى الوجه ممّا يلي الرأس .

والجنُوب : جمع جَنْب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار .

والظُّهور : جمع ظَهْر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم .

والمعنى : تعميم جهات الأجساد بالكَي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألَم الكي ، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصنافٍ من الآلام .

وسُلك في التعبير عن التعميم مسلكُ الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم ، تهويلاً لشأنه ، فلذلك لم يقل : فتكوى بها أجسادهم .

وكيفيةُ إحضار تلك الدراهم والدنانير لتُحمى من شؤون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في « الموطأ » و« الصحيحين » أنّه يمثّل له ماله شُجاعاً أقرَع يأخذ بلهزمتيه يقول : « أنا مالك أنا كنزلك » وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله ، وإن كانت قد تداول أعيانَها خلقٌ كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد ، ومن بلد إلى بلد ، ومن عصَر إلى عصر .

وجملة { هذا ما كنزتم لأنفسكم } مقول قول محذوف ، وحَذْف القول في مثله كثير في القرآن ، والإشارة إلى المحمي ، وزيادة قوله : { لأنفسكم } للتنديم والتغليظ ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأنّ الفعل الذي علّل بها هو من فعل المخاطب ، وهو لا يفعل شيئاً لأجل نفسه إلاّ لأنّه يريد به راحتها ونفعها ، فلمّا آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة ، بما كان أضعافاً مضاعفة من ألم العذاب وجملة { فذوقوا ما كنتم تكنزون } توبيخ وتنديم .

والفاء في { فذوقوا } لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى .

والذوْق مجاز في الحسّ بعلاقة الإطلاق ، وتقدم عند قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } في سورة العقود ( 95 ) .

{ وما كنتم تكنزون } مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام : أي ذوقوا عذابَ ما كنتم تكنزون .

وعُبِّر بالموصولية في قوله : { ما كنتم تكنزون } للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم .