تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ} (92)

وقوله : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } قال ابن عباس وغيره من السلف : إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون ، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده{[14397]} بلا روح ، وعليه درعه المعروفة [ به ]{[14398]} على نجوة{[14399]} من الأرض وهو المكان المرتفع ، ليتحققوا موته وهلاكه ؛ ولهذا قال تعالى : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } أي : نرفعك على نَشز{[14400]} من الأرض ، { بِبَدَنِك } قال مجاهد : بجسدك . وقال الحسن : بجسم لا روح فيه . وقال عبد الله بن شداد : سويا صحيحا ، أي : لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه . وقال أبو صخر : بدرعك{[14401]}

وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها ، كما تقدم ، والله أعلم .

وقوله : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } أي : لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك ، وأن الله{[14402]} هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده ، وأنه لا يقوم لغضبه شيء ؛ ولهذا قرأ بعض السلف : " لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ " {[14403]} أي : لا يتعظون{[14404]} بها ، ولا يعتبرون . وقد كان [ إهلاك فرعون وملئه ]{[14405]} يوم عاشوراء ، كما قال البخاري :

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غُنْدَر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة ، واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أنتم أحق بموسى منهم ، فصوموه " {[14406]}


[14397]:- في ت ، أ : "بجسده سويا".
[14398]:- زيادة من ت ، أ.
[14399]:- في ت : "نحوه".
[14400]:- في ت : "يرفعك على بشر".
[14401]:- في ت : "تذرعك".
[14402]:- في ت : "وأنه تعالى".
[14403]:- في ت : "الغافلون".
[14404]:- في ت : "يتعضون".
[14405]:- زيادة من ت ، أ.
[14406]:- صحيح البخاري برقم (4680).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ} (92)

{ فاليوم ننجّيك } ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل . وقرأ يعقوب { ننجيك } من أنجى ، وقرأ " ننحيك " بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل . { ببدنك } في موضع الحال أي ببدنك عاريا عن الروح ، أو كاملا سويا أو عريانا من غير لباس . أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها . وقرئ " بأبدانك " أي بأجزاء البدن كلها كقولهم هوى بإجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها . { لتكون لمن خلفك آية } لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك ، حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل ، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا عن الطغيان ، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية . وقرئ لمن " خلقك " أي لخالقك آية أي كسائر الآيات فإن إفراده إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه تعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك . وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته ، وهذا الوجه أيضا محتمل على المشهور . { وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون } لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ} (92)

وقوله تعالى { فاليوم ننجيك } الآية ، يقوي ما ذكرناه من أنها صورة الحال لأن هذه الألفاظ إنما قيلت بعد فرقة ، وسبب هذه المقالة على ما روي أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه لعظمه عندهم ، وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت فنجي على نجوة من الأرض حتى رآه جميعهم ميتاً كأنه ثور أحمر ، وتحققوا غرقه{[6221]} ، وقرأت فرقة «فاليوم ننجيك » وقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء ، وقال جماعة معناه : نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها ، ومنه قول أوس بن حجر : [ البسيط ]

فمن بعقوته كمن بنجوته*** والمستكن كمن يمشي بقرواح{[6222]}

وقرأ يعقوب «ننْجِيك » بسكون النون وتخفيف الجيم ، وقرأ أبي بن كعب «ننحّيك » بالحاء المشددة من التنحية ، وهي قراءة محمد بن السميفع اليماني ويزيد البريدي{[6223]} ، وقالت فرقة : معنى { ببدنك } بدرعك{[6224]} ، وقالت فرقة معناه بشخصك وقرأت فرقة «بندائك » أي بقولك { آمنت } الخ الآية ، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف ، ومعنى الآية أنا نجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع{[6225]} ، وقرأت فرقة هي الجمهور «خلفك » أي من أتى بعدك ، وقرأت فرقة «خلقك » المعنى يجعلك الله آية له في عباده{[6226]} ، ثم بيّن عز وجل العظة لعباده بقوله { وإن كثير من الناس عن آياتنا لغافلون } وهذا خبر في ضمنه توعد .


[6221]:- يقال: تحقق الأمر: صحّ ووقع، ويقال أيضا: تحقق الأمر: عرف حقيقته.
[6222]:- البيت منسوب في "اللسان" إلى عبيد بن الأبرص، في (عقا) وفي (قرح). والمعروف أنه لأوس، وهو من قصيدة له مشهورة يصف فيها المطر، وهي قصيدة فريدة تغنى بها الموصلي لالتحام مقاطعها، ومطلعها: ودع لميس وداع الصارم اللاحي إذ فنّكت في فساد بعد إصلاح ورواية الديوان: فمن بنجوته كمن بمحفله والمستكنّ كمن يمشي بقرواح والعقوة: الساحة وما حول الدار والمحلة، والجمع: عقاء، والنجوة: ما ارتفع من الأرض والمحفل: مستقر الماء ووسطه. والكنّ: الوقاء والستر- وهو أيضا: البيت، والقرواح: الأرض البارزة للشمس. يقول: إن المطر عمّ الأرض وغمر كل شيء فمن كان في مرتفع تساوى مع من كان في محلّ مستو من الأرض، ومن كان في كنّ تساوى مع من كان على ظهر الأرض بارزا للشمس.
[6223]:- وفي معنى التنحية يقول الحطيئة لأمه: (سامحه الله): تنحّيْ فاقعدي مني بعيدا أراد الله منك العالمينا.
[6224]:- من معاني البدن في اللغة: الدرع القصيرة، أنشد أبو عبيد لعمرو بن معديكرب: ومضى نساؤهم بكل مفاضة جدلاء سابغة وبالأبدان المفاضة: الدرع الواسعة، والجدلاء: المحكمة النسج، والأبدان: الدروع القصيرة.
[6225]:-قال القرطبي: "هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين، والقراءة سنّة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا".
[6226]:- معنى قراءة [خلفك] بسكون اللام: أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم يبلغه الخبر. ومعنى قراءة فتح اللام: أي لمن يخلفك في أرضك، وربما كانت عبارة ابن عطية لا توضح الفرق بالدقة المطلوبة.