يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه - تبارك وتعالى - بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ }
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثني إسحاق ، حدثنا أبو زهير{[7854]} عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهْ إلا قَلِيلٌ [ مِنْهُمْ ]{[7855]} } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " {[7856]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا روح ، حدثنا هشام ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } الآية . قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو فعل ربنا لفعلنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لَلإيمان{[7857]} أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي " .
وقال السدي : افتخر ثابت بن قيس بن شَمَّاس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا . فقال ثابت : والله لو كتب علينا : { أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } لقتلنا . فأنزل الله هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غَيْلان ، حدثنا بشر بن السَّرِي ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير ، قال : لما نزلت [ { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت ، قال : " صدقت يا أبا بكر " .
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنيّ قال : سئل سفيان عن قوله ]{[7858]} { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " .
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن شُرَيْح بن عُبَيْد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ]{[7859]} } الآية ، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رَواحة ، فقال : " لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل " يعني : ابن رواحة .
ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به ، وتركوا ما ينهون عنه { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي : من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } قال السدي : أي : وأشد تصديقا .
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } تعرضوا بها للقتل في الجهاد ، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا . { أو اخرجوا من دياركم } خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك ، أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى : { ولا تنسووا الفضل } وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل . { ما فعلوه إلا قليل منهم } إلا أناس قليل وهم المخلصون . لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم ، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا ، أو لأحد مصدري الفعلين -وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا . { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطاوعته طوعا ورغبة . { لكان خيرا لهم } في عاجلهم وآجلهم . { وأشد تثبيتا } في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز . والآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق اليهودي . وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك . فقال عليه الصلاة والسلام أسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك " .
و { كتبنا } معناه فرضنا ، و { اقتلوا أنفسكم } معناه ليقتل بعضكم بعضاً ، وقد تقدم نظيره في البقرة ، وضم النون من { أن } وكسرها جائز ، وكذلك الواو من { أو أخرجوا } وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي ، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم ، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو ، و { قليل } رفع على البدل من الضمير في { فعلوه } ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلاً » ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب .
وسبب الآية على ما حكي : أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام : ما رأينا أسخف من هؤلاء ، يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤون عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلناه ، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين ، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه ، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون ، كثابت وغيره ، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل . وشركهم في ضمير { منهم } لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة ، وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إن من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي »{[4139]} وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق ، وذكر النقاش : أنه عمر بن الخطاب ، وذكر عن أبي بكر أنه قال : لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي وقوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا } أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، و { تثبيتاً } معناه : يقيناً وتصديقاً ونحوهذا ، أي يثبتهم الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.