تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

ثم قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح ، خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة [ هذا ]{[12288]} الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد : هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا ، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كما قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله منه ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .

وقول مجاهد في قوله : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حرامًا ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه .

وقال قتادة في : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي : والله ، لخلف سوء ، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، قال { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } تمنوا على الله أماني ، وغرَّة يغترون بها ، { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشغلهم شيء عن شيء ، ولا ينهاهم شيء عن ذلك ، كلما هف لهم شيء من [ أمر ]{[12289]} الدنيا أكلوه ، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا .

وقال السُّدِّي [ في ]{[12290]} قوله : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } إلى قوله : { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ، فيقول : " سيغفر لي " ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي . يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه .

قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا ، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ، ولا يكتمونه كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 187 ]

وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ، ولا يتوبون منها .

وقوله تعالى : { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه ، ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي : وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه .

{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يقول : أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ؟


[12288]:زيادة من م.
[12289]:زيادة من أ.
[12290]:زيادة من م.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

{ فخلف من بعدهم } من بعد المذكورين . { خلف } بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع . وقيل جمع وهو شائع في { ورثوا الكتاب } التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها . { يأخذون عرض هذا الأدنى } حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا ، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحريف الكلم ، والجملة حال من الواو . { ويقولون سيُغفر لنا } لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون . { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } حال من الضمير في { لنا } أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه . { ألم يُؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } أي في الكتاب . { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } عطف بيان للميثاق ، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب . { ودرسوا ما فيه } عطف على { ألم يؤخذ } من حيث المعنى فإنه تقرير ، أو على { ورثوا } وهو اعتراض . { والدار الآخرة خير للذين يتقون } مما يأخذ هؤلاء . { أفلا يعقلون } فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

{ خلف } معناه حدث خلفهم و { بعدهم خلْف } بإسكان اللام يستعمل في الأشهر في الذم ومنه قول لبيد : [ الكامل ]

ذهب الذين يعاش في أكنافهم*** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا*** لأولنا في طاعة الله تابع

والخلَف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح ، قال أبو عبيدة والزجاج : وقد يستعمل في الذم أيضاً ومنه قول الشاعر :

*ألا ذلك الخلف الأعور*

وقال مجاهد : المراد ب «الخلف » هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس { ورثوا الكتاب } وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري «وُرّثوا الكتاب » بضم الواو وشد الراء ، وقوله { يأخذون عرض هذا الأدنى } إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة و «العرض » ما يعرض ويعن ولا يثبت ، و «الأدنى » إشارة إلى عيش الدنيا ، وقوله : { ويقولون سيغفر لنا } ذم لهم باغترارهم وقولهم : { سيغفر } مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى الله عليه وسلم : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم » .

وقوله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم } الآية ، تشديد في لزوم الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل ، و { الكتاب } يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى ، وقوله : { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم ، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك ، وقرأ جمهور الناس : «يقولوا » بياء من تحت وقرأ الجحدري : «تقولوا » بتاء من فوق وقوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ألم يؤخذ } الآية بمعنى المضي ، يقدر : أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، «واَّدارسوا » ما فيه وقال الطبري وغيره ، قوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ورثوا الكتاب } .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله : { ودرسوا } يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله : { ألم } ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله : { والدار الآخرة خير للذين يتقون } وقرأ جمهور الناس : «أفلا تعقلون » بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة : «يعقلون » بالياء من أسفل .