السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

{ فخلف من بعدهم } أي : هؤلاء الذين وصفناهم { خلف } والخلف القرن الذي يجيء من بعد وهو بسكون اللام شائع في الشر وبفتحها في الخير يقال : خَلَف صدق بفتح اللام وخلْف سوء بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت :

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا *** لأوّلنا في طاعة الله تابع

وقال لبيد في الذم :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

فحرك اللام والخلف مصدر نعت به ، ولذلك يقع على الواحد والجمع والمراد به الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { ورثوا الكتاب } أي : التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها { يأخذون عرض هذا الأدنى } أي : هذا الشيء الفاني الأدنى أي : الدنيا وما يتمتع به فيها وفي قوله : { هذا الأدنى } تخسيس وتحقير ، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب ، وإما من دون الحال وسقوطها وقلتها والعرض بالفتح جميع متاع الدنيا كما يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر ، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير وجمعه عروض . والمعنى : أنهم يأخذون حطام الدنيا وهو الشيء التافه الخسيس الحقير ؛ لأنّ الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنه حرام { و } مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم وإصرارهم عليه { يقولون سيغفر لنا } أي : لا يؤاخذهم الله تعالى بذلك فيتمنون على الله الأمانيّ الباطلة ، وعن شدّاد بن أوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) ؛ لأنّ اليهود كانوا يقومون على الذنوب ويقولون : سيغفر لنا ، وهذا هو التمني بعينه . وقوله تعالى : { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } الواو فيه للحال أي : يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار وقوله تعالى : { ألم يؤخذ } استفهام تقرير { عليهم ميثاق الكتاب } أي : التوراة والإضافة بمعنى في { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } أي : المعلوم شأنه وليس من المعلوم إثبات المغفرة على القطع بغير توبة ، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وقوله تعالى : { ودرسوا ما فيه } أي : ما في ذلك الميثاق الذي في الكتاب أو الكتاب بتقرير القراءة للحفظ عطف على { ألم يؤخذ } من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و{ ألم يؤخذ } اعتراض { والدار الآخرة خير } أي : وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير { للذين يتقون } الله ويخافون عقابه { أفلا يعقلون } أي : حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدل ما يسعدهم ويبقى أنّ الدار الآخرة خير ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ويكون المراد الإعلام بتناهي الغضب ، والباقون بالياء على الغيبة .