تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (232)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ، فتنقضي عدتها ، ثم يبدو له أن يتزوجها{[3982]} وأن يراجعها ، وتريد المرأة ذلك ، فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها . وكذا{[3983]} روى العوفي ، عنه ، وكذا قال مسروق ، وإبراهيم النخعي ، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك . وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ، وأنه لا بد في تزويجها{[3984]} من ولي ، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية ، كما جاء في الحديث : لا تزوج المرأةُ المرأةَ ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها{[3985]} . وفي الأثر الآخر : لا نكاح إلا بولي مرشد ، وشاهدي عدل . وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ، وقد قررنا ذلك في كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .

وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ، فقال البخاري ، رحمه الله ، في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية :

حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن قال : حدثني معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي - قال البخاري : وقال إبراهيم ، عن يونس ، عن الحسن : حدثني معقل بن يسار . وحدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يونس ، عن الحسن : أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فتركها حتى انقضت عدتها ، فخطبها ، فأبى معقل ،

فنزلت : { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }{[3986]} .

وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه من طرق متعددة ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار ، به{[3987]} . وصححه الترمذي أيضًا ، ولفظه عن معقل ابن يسار : أنه زوج أخته رجلا من المسلمين ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقال له : يا لكع{[3988]} أكرمتك بها وزوجتكها ، فطلقتها ! والله لا ترجع إليك أبدًا ، آخر ما عليك قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلما سمعها معقل قال : سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك ، زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني .

وروى ابن جرير{[3989]} عن ابن جريج قال : هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح ، وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : هي فاطمة بنت يسار . وهكذا ذكر غير واحد من السلف : أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته . وقال السدي : نزلت في جابر بن عبد الله ، وابنة عم له ، والصحيح الأول ، والله أعلم .

وقوله : { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ } أيها الناس { يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يؤمن بشرع الله ، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة{[3990]} وما فيها من الجزاء { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي : اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن ، وترك الحمية في ذلك ، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي : من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون .


[3982]:في جـ: "ثم يبدو له تزويجها".
[3983]:في جـ: "وكذلك".
[3984]:في جـ، أ: "في النكاح".
[3985]:رواه ابن ماجة في السنن برقم (1882) من طريق محمد بن مروان عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا به، وقال البوصيري في الزوائد (2/84): "هذا إسناد مختلف فيه".
[3986]:صحيح البخاري برقم (4529).
[3987]:سنن أبي داود برقم (2087) وسنن الترمذي برقم (2981) وتفسير الطبري (5/17، 18) ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف لسنن ابن ماجة.
[3988]:في أ: "فقال له وكيع".
[3989]:في جـ: "ابن جريج".
[3990]:في جـ: "في الدنيا والآخرة".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (232)

{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن ، وعن الشافعي رحمه الله تعالى دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين . { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } المخاطب به الأولياء لما روي ( أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جميلاء أن ترجع إلى زوجها الأول بالاستئناف ) فيكون دليلا على أن المرأة لا تزوج نفسها ، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى ، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن . وقيل الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن يتزوجن عدوانا وقسرا ، لأنه جواب قوله { وإذا طلقتم النساء } . وقيل الأولياء والأزواج . وقيل الناس كلهم ، والمعنى : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر فإنه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا الفاعلين له والعضل الحبس والتضييق منه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج . { إذا تراضوا بينهم } أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأنه ينكحن أو لا تعضلوهن . { بالمعروف } بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة ، حال من الضمير المرفوع ، أو صفة لمصدر محذوف ، أو تراضيا كائنا بالمعروف . وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه . { ذلك } إشارة إلى ما مضى ذكره ، والخطاب للجميع على تأويل القبيل ، أو كل واحد ، أو أن الكاف لمجرد الخطاب . والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد . { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } لأنه المتعظ به والمنتفع . { ذلكم } أي العمل بمقتضى ما ذكر . { أزكى لكم } أنفع . { وأطهر } من دنس الآثام . { والله يعلم } ما فيه النفع والصلاح . { وأنتم لا تعلمون } لقصور علمكم .