ثم بين تعالى الأعذار التي لا حَرَج على من قعد فيها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه ، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ، ومنه العمى والعَرَج ونحوهما ، ولهذا بدأ به . ما هو عارض بسبب مرض عَنَّ له في بدنه ، شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب فقره{[13772]} لا يقدر على التجهز للحرب ، فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ، ولم يرجفوا بالناس ، ولم يُثَبِّطوهم ، وهم محسنون في حالهم هذا ؛ ولهذا قال : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال سفيان الثوري ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي ثمامة ، رضي الله عنه ، قال : قال الحواريون : يا روح الله ، أخبرنا عن الناصح لله ؟ قال : الذي يُؤثِر حق الله على حق الناس ، وإذا حدث له أمران - أو : بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة - بدأ بالذي للآخرة ثم تفرغ للذي للدنيا .
وقال الأوزاعي : خرج الناس إلى الاستسقاء ، فقام فيهم بلال بن سعد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معشر من حضر : ألستم مقرين بالإساءة ؟ قالوا : اللهم نعم . فقال : اللهم ، إنا نسمعك تقول : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } اللهم ، وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقِنا . ورفع يديه ورفعوا أيديهم فَسُقوا .
وقال قتادة : نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي ، حدثنا ابن جابر ، عن ابن فروة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت أكتب " براءة " فإني لواضعُ القلم على أذني إذ أمرْنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذا جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فأنزل الله{[13773]} { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } الآية{[13774]} وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن مُغَفَّل المزني{[13775]} فقالوا : يا رسول الله ، احملنا . فقال لهم : " والله لا{[13776]} أجد ما أحملكم عليه " . فتولوا ولهم بكاء ، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملا . فلما رأى الله حرْصَهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ } إلى قوله تعالى : { فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رخص فقال: {ليس على الضعفاء}، يعني الزمني والشيخ الكبير، {ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} في القعود، {إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور} لتخلفهم عن الغزو، {رحيم} بهم...
... قيل: نزلت في أن لا حرج أن لا يجاهدوا، وهو أشبه ما قالوا وغير محتمل غيره، وهم داخلون في حد الضعفاء وغير خارجين من فرض الحج ولا الصلاة ولا الصوم ولا الحدود، ولا يحتمل ـ والله تعالى أعلم ـ أن يكون أريد بهذه الآية إلا وضع الحرج في الجهاد دون غيره من الفرائض.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو، ولا على المرضى، ولا على من لا يجد نفقة يتبلغ بها إلى مغزاه "حرج"، وهو الإثم، يقول: ليس عليهم إثم إذا نصحوا الله ولرسوله في مغيبهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. "ما عَلى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ "يقول: ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد معه لعذر يعذر به طريق يتطرّق عليه فيعاقب من قبله. "وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول: والله ساتر على ذنوب المحسنين، يتغمدها بعفوه لهم عنها، "رحيم" بهم أن يعاقبهم عليها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... أصله، والله أعلم في وجهين: أحدهما: أن كل ما لم يعمل في المنع عن الخروج لشهوة أو لطمع، يرجو نيله من التجارة ونحوها لم يكن ذلك عذرا في ترك الخروج؛ إذ شدة الحر وبعد السفر وخوف العدو مما لا يمنعهم عن الخروج للتجارة، فلم يصر ذلك عذرا لهم بالتخلف عن الخروج للجهاد. وأما حال المرض والزمانة وعدم النفقة يمنع، ويعجزهم عن الخروج في كل ما يهوون ويشتهون، صار ذلك عذرا لهم بالتخلف عن الخروج للجهاد. والثاني: أن كل ما يقدر على دفعه بحال لم يجعل ذلك عذرا في التخلف، وكل ما لا سبيل لهم إلى دفعه فهو عذر، والحر وبعد السفر وخوف العدو يجوز أن يدفع، فيصير كأن ليس عذرا.
وقوله تعالى: (إذا نصحوا لله ورسوله) قيل: لم يخدعوا أحدا في دينه، ولم يغشوا في دنياه، وقيل: (إذا نصحوا لله ورسوله) أي أطاعوا الله ورسوله في الحضرة، ولم يتركوا طاعته.
وقوله تعالى: (والله غفور رحيم) بتركهم الخروج وتخلفهم عن الجهاد مع الأعذار.
... وكان عُذْرُ هؤلاء ومَدْحُهم بشريطة النصح لله ورسوله؛ لأن من تخلف منهم وهو غير ناصح لله ورسوله بل يريد التضريب والسعي في إفساد قلوب من بالمدينة لكان مذموماً مستحقّاً للعقاب، ومن النُّصْحِ لله تعالى حَثُّ المسلمين على الجهاد وترغيبهم فيه والسعي فيه إصلاح ذات بينهم ونحوه مما يعود بالنفع على الدين، ويكون مع ذلك مخلصاً لعمله من الغشِّ؛ لأن ذلك هو النصح، ومنه التوبة النصوح.
قوله تعالى: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}، عمومٌ في أن كل من كان محسناً في شيء فلا سبيل عليه فيه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...الإحسان هو: إيصال النفع إلى الغير لينتفع به مع تعريه من وجوه القبح. ويصح أن يحسن الإنسان إلى نفسه ويحمل على ذلك، وهو إذا فعل الأفعال الجميلة التي يستحق بها المدح والثواب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... قوله: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ}: المُحْسِنُ الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا في حقِّ الله ولا في حقِّ الخَلْق... ويقال هو الذي يقوم بحقوقِ ما نِيط به أَمْرُه؛ فلو كان طيرٌ في حكمه وقَصَّرَ في عَلَفِه -لم يكن محسناً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... النصح لله ورسوله: الإيمان بهما، وطاعتهما في السرّ والعلن، وتوليهما، والحبّ والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه..
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
ثَبَتَ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ، فَأَبَى أَنْ يَحْمِلَنَا، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَلَّا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ النَّبِيُّ أَنْ أَتَى بِنَهْبِ إبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ، فَلَمَّا قَبَضْنَاهَا قُلْنَا: تَغَفَّلْنَا النَّبِيَّ يَمِينَهُ، لَا نُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّكَ حَلَفْت أَلَّا تَحْمِلَنَا، وَقَدْ حَملْتَنَا. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا...
...ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأقسام الثلاثة قال: لا حرج على هؤلاء، والمراد أنه يجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو، وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج، لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة؛ إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لا يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم، كان ذلك طاعة مقبولة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى في هذه الآيات الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله بالتفصيل، فعلم منه بطلان ما عداها، وخص بالذكر شر ما عداها وهو استئذان الأغنياء.
فقال: {ليس على الضعفاء} الضعفاء جمع ضعيف وهو ضد القوي أي من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد، قال ابن عباس: يعني الزمنى والشيوخ والعجزة، وقيل هم الصبيان وقيل النسوان... وقدم ذكر هؤلاء لأن عذرهم دائم لا يزول.
{ولا على المرضى} جمع مريض وهم الذين عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد كالحميات وعذرهم ينتهي بالشفاء منها.
{ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} وهم الفقراء الذين لا يجدون مالاً ينفقون منه على أنفسهم إذا خرجوا للجهاد ويتركون لعيالهم ما يكفيهم، وكان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغني ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته، كما فعلوا في غزوة تبوك، إذا لم يكن للمسلمين بيت مال غني ينفق منه النبي صلى الله عليه وسلم على الغزاة، وهذا العذر خاص بالمال، ويزول إذا كان للأمة في بيت المال ما ينفقون منه، أي ليس على هذه الأصناف الثلاثة {حرج} أي ضيق في حكم الشرع يعدون به مذنبين ولا إثم في القعود عن الجهاد الواجب.
{إذا نصحوا لله ورسوله} في حال قعودهم لعجزهم، أي إذا أخلصوا لله تعالى في الإيمان وللرسول صلى الله عليه وسلم في الطاعة وأداء الأمانة بالقول والعمل، ولا سيما الذي تقتضيه حالة الحرب، فالنصيحة والنصح (بالضم): تحري ما يصلح به الشيء ويكون خالياً من الغش والخلل والفساد، من قولهم: نصح العسل ونصع إذا كان خالصاً مصفى، ونصح الخياط الثوب إذا أنعم خياطته ولم يترك فيه فتقاً ولا خللاً... ومنه يعلم أن من النصح لله ورسوله في هذه الحالة كل ما فيه مصلحة للأمة ولا سيما المجاهدين منها، من كتمان سر، وحث على بر، ومقاومة خيانة الخائنين في سر أو جهر، فالنصح العام ركن من الأركان المعنوية للإسلام به عز السلف وبزوا، وبتركه ذل الخلف وابتزوا...
{ما على المحسنين من سبيل} السبيل الطريق السهل يطلق على الحسي منه والمعنوي، في الخير وفي الشر، كما تقدم في تفسير {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]، و «من» لتأكيد النفي العام، وهو أبلغ من قولك: « ما عليه سبيل» وإن كان عاما، فقولك ما على فلان من سبيل معناه ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذته أو النيل منه، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليه، وهذا الاستعمال مكرر في القرآن. والمحسنون ضد المسيئين، وهو عام في كل من أحسن عملا من أعمال البر والتقوى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [البقرة:112] الآية. والشرع الإلهي يجزي المحسن بأضعاف إحسانه، ولا يؤاخذ ولا يعاقب المسيء إلا بقدر إساءته. فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح المذكور انقطعت طرق المؤاخذة دونهم، والإحسان أعم من النصح المذكور، فالجملة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم بما ينتظمون به في سلك المحسنين، فيكون رفعه عنهم مقروناً بالدليل. فكل ناصح لله ورسوله محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج، وهذه المبالغة في أعلى مكانة من أساليب البلاغة.
ولما ذكر رفع المؤاخذة عنهم بإحسانهم السلوك فيما هم معذورون فيه من القعود عن الجهاد وهو الذي اقتضاه المقام، قفى عليه بالستر عليهم والصفح والإحسان إليهم فيما عداه، على قاعدة "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان "فقال: {والله غفور رحيم} أي وهو تعالى كثير المغفرة واسع الرحمة، فهو يستر على المقصرين ما لا يخلوا منه البشر من ضعف في أداء الواجبات لا ينافي الإخلاص والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويدخلهم في رحمته في عباده الصالحين. وأما المنافقون المسيئون عملاً ونية فإنما يغفر لهم ويرحمهم إذا تابوا من نفاقهم الباعث لهم على إساءتهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...وكأنهم إذا سقط واجب الجهاد بالسيف، والاعتراك في المعركة، فإنهم يحملون واجبا آخر هو الإرشاد والتوجيه، والمعاونة بكل ما يستطيعون، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن لهم فضل الجهاد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآيات قسمت المسلمين في مجال المشاركة في الجهاد لتوضيح حال سائر المجاميع من ناحية القدرة على الجهاد، أو العجز عنه، وأشارت إِلى خمس مجموعات: أربع منها معذورة حقيقة وواقعاً، والخامسة هم المنافقون.
الآية الأُولى تقول: إنّ الضعفاء، والعاجزين لكبر أو عمى أو نقص في الأعضاء، والذين لا وسيلة لهم يتنقلون بها ويستفيدون منها في المشاركة في الجهاد، لا حرج عليهم إِذا تخلفوا عن هذا الواجب الإِسلامي المهم: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج).
هذه الأقسام الثلاث تعذر في كل قانون إِذا لم تشارك، والعقل والمنطق يمضي هذا التسامح، ومن المسلم أنّ القوانين الإِسلامية لا تنفصل عن المنطق والعقل في أي مورد.
كلمة «الحرج» في الأصل تعني مركز اجتماع الشيء، ولما كان اجتماع الناس وكثرتهم في مكان ومركز ما ملازم لضيق ذلك المكان، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الضيق والإِزعاج والمسؤولية والتكليف، ويكون معناها في هذه الآية هو المعنى الأخير، أي المسؤولية والتكليف.
ثمّ بيّنت الآية شرطاً مهماً في السماح لهؤلاء بالانصراف، وهو إخلاصهم وحبّهم لله ورسوله، ورجاؤهم وعملهم كل خير لهذا الدين الحنيف، لذا قالت: (إذا نصحوا لله ورسوله) أي إنّ هؤلاء إذا لم يكونوا قادرين على حمل السلاح والمشاركة في القتال، فإنّهم قادرون على استعمال سلاح الكلمة والسلوك الإِسلامي الأمثل، وبهذا يستطيعون ترغيب المجاهدين، ويثيرون الحماس في نفوس المقاتلين، ويرفعون معنوياتهم بذكرهم الثمرات المترتبة على الجهاد وثوابه العظيم.
وكذلك يجب أن لا يقصروا في هدم وتضعيف معنويات العدو، وتهيئة أرضية الهزيمة في نفوس أفراده قدر المستطاع لأنّ كلمة (نصح) في الأصل بمعنى (الإخلاص) وهي كلمة جامعة شاملة لكل شكل من أشكال طلب الخير والإِقدام المخلص في هذا السبيل، ولما كان الكلام عن الجهاد، فإنّها تنظر إِلى كل جهد وسعي يبذل في هذا المجال.
ثمّ تذكر الآية الدليل على هذا الموضوع، فتذكر أن مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يألون جهداً في عمل الخير، لا يمكن أن يعاتبوا أو يُوبَّخوا أو يُعاقبوا، إذ (ما على المحسنين من سبيل).
بعد ذلك اختتمت الآية بذكر صفتين عظيمتين من صفات الله عزّ وجلّ وكل صفاته عظيمة كدليل آخر على جواز تخلف هؤلاء المندرجين ضمن المجموعات الثلاث فقالت: (والله غفور رحيم).
(غفور) مأخوذة من مادة الغفران، أي الستر والإخفاء، أي إن الله سبحانه وتعالى سيلقي الستار على أعمال هؤلاء المعذورين ويقبل أعذارهم، وكون الله «رحيماً» يقتضي أن لا يكلف أحداً فوق طاقته، بل يعفيه من ذلك، وإذا أُجبر هؤلاء على الحضور في ميدان القتال، فإنّ ذلك لا يناسب غفران الله ورحمته، وهذا يعني أنّ الله الغفور الرحيم سيعفي هؤلاء عن الحضور حتماً، ويعفو عنهم.
ويستفاد من جملة من الرّوايات التي نقلها المفسّرون في ذيل هذه الآية، أنّ هذه المجموعات المعذورة لا يقتصر الأمر فيهم على السماح لهم في التخلف وعدم مؤاخذتهم فحسب، بل إنّ أفرادها لهم من الجزاء والثواب كثواب المجاهدين الذين حضروا وقاتلوا، كل على قدر اشتياقه وتحرقه للمشاركة، فنحن نقف على حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقرأ: إِنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: «لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم وادياً إِلاّ كانوا معكم فيه قالوا: «وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر».