فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (91)

ولما ذكر سبحانه المعذرين ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو ، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة فقال : { ليس على الضعفاء } وهم أرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ونحو ذلك كالشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفا نحيفا ، والضعفاء جمع ضعيف ، وهو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو .

ثم ذكر العذر العارض فقال : { ولا على المرضى } المراد بالمرض كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعا ، وقيل أنه يدخل في المرضى الأعمى والأعرج ونحوهما . ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال : { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد لفقرهم ، كجهينة ومزينة وبني عذرة ، فنفى سبحانه عن هؤلاء الثلاثة الحرج ، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم مقيدا بقوله : { إذا نصحوا لله ورسوله } في حال قعودهم بالطاعة وعدم الإرجاف والتثبيط ، وأصل النصح إخلاص العمل من الغش ومنه التوبة النصوح .

قال نفطويه : نصح الشيء إذا خلص ونصح له القول أي أخلصه له ، والنصح لله الإيمان به والعمل بشريعته وترك ما يخالفها كائنا ما كان ، ويدخل تحته دخولا أوليا نصح عباده ومحبة المجاهدين في سبيله وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه ، ونصيحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بنبوته وبما جاء به ، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهى عنه وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، ومحبته وتعظيم سنته وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة .

وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( الدين النصيحة ثلاثا ، قالوا لمن ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) {[911]} . وفي الخازن : النصح أن يقيموا في البلد ويحترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن ويسعوا في إيصال الخير إلى أهل الجهاد ويقوموا بمصالح بيوتهم .

{ ما على المحسنين من سبيل } جملة مقررة لمضمون ما سبق ، أي ليس على المعذورين الناصحين طريق عقاب ومؤاخذة ، ومن مزيدة للتأكيد ، وعلى هذا فيكون لفظ المحسنين موضوعا في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقا ، وأتى بالظاهر للدلالة على انتظامهم بنصحهم في سلك المحسنين ، أو يكون المراد ما على جنس المحسنين من سبيل ، وهؤلاء المذكورون سابقا من جملتهم ، فتكون الجملة تعليلية ، وقولهم لا سبيل عليه معناه لا حرج ولا عتاب ، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه فضلا عن العتاب ، وإذا تعدى بإلى كقوله :

ألا ليت شعري هل إلى أم سالم سبيل فأما الصبر عنها فلا صبر

فبمعنى الوصول كما قال :

هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

ونحوه ، فتنبه لمواطن استعماله فإنه من مهمات الفصاحة { والله غفور رحيم } لهم أو للمسيء فكيف للمحسن ، والجملة تذييلية .

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } .

وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذر الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه ، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد ، وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا وهم فيه ) قالوا يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ فقال ( حبسهم العذر ) {[912]} .

وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر{[913]} عن قتادة قال : أنزلت هذه الآية في عائد بن عمر المزني ، وقال الضحاك : عذرهم وجعل لهم من العذر ما جعل للمجاهدين .

قال الرازي : ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج ، لأن الواحد لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم ، بشرط أن لا يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم لكان ذلك طاعة مقبولة .


[911]:- مسلم 55.
[912]:- البخاري كتاب الجهاد باب 35.
[913]:- مسلم 1911.