اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (91)

ثمَّ ذكر أهل العذر فقال : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء } قال ابنُ عبَّاسٍ : يعني : الزَّمنى ، والمشايخ والعجزة .

وقيل : هم الصُّبيان . وقيل : النِّسوان . { وَلاَ على المرضى } وهم أصحاب العمى ، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة ، { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } يعني : الفقراء ؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين ، " حَرَجٌ " إثم . وقيل : ضيق عن القعود في الغزو . ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً ، فقال { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } . قرأ أبو{[18035]} حيوةَ : " نَصَحُوا اللهَ " بغير لام . وقد تقدَّم أن " نَصَحَ " يتعدَّى بنفسه وباللامِ . والنُّصح : إخلاص العملِ من الغِشّ . ومنه : التَّوبة النصُوح . قال نفطويه : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي : أخلصه له . قال عليه الصلاة والسلام : " الدِّينُ النَّصيحَةُ " ثلاثاً . قالوا لمنْ ؟ قال : " للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ " {[18036]} .

قال العلماءُ : النَّصيحة للهِ : إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص ، والرَّغبة في محابه ، والبُعْد من مساخطه ، والنَّصيحة لرسوله : التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنَّته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والنفقة فيها ، والذب عنها ، ونشرها ، والدُّعاء إليها ، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة ، وكذا النصح لكتاب الله قراءته ، والتفقه فيه ، والذَّب عنه ، وتعليمه وإكرامه ، والتخلُّق به .

والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحقِّ ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين ، ولزوم طاعتهم ، والقيام بواجب حقهم . وأمَّا النصحُ للعامَّةِ : فهو ترك معاداتهم وإرشادهم ، وحب الصَّالحين منهم ، والدعاء لجميعهم ، وإرادة الخير لكافتهم . والمعنى : أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف ، ولا يثيروا الفتنَ ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم ، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم ، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ .

ثم قال تعالى : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } فقوله " مِنْ سبيلٍ " فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والجار قبله خبره . وعلى كلا القولين ف " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، أي : ما على المحسنين سبيل . والمعنى : أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد .

{ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال قتادةُ : نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه{[18037]} . وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم ، وكان ضريراً{[18038]} .

فصل

قال بعضهم : في هذه الآية نوعٌ من البديع ، يُسمَّى التلميح ، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ ، أو مثل سائرٍ ، أو شعرٍ نادرٍ ، في فحوى كلامك من غير ذكره ؛ ومنه قوله : [ البسيط ]

اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ *** والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ{[18039]}

يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه : " اليوم خَمْرٌ ، وغداً أمرٌ " .

وقول الآخر : [ الطويل ]

فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ *** ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ{[18040]} ؟

يشير إلى قصَّة يوشع عليه الصلاة والسلام ، واستيقانه الشَّمس .

وقول الآخر : [ الطويل ]

لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي *** أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ{[18041]}

أشار إلى البيت المشهور : [ البسيط ]

المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ *** كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ{[18042]}

فكأنه قوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس ؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه . ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله : " من غير ذكره " . ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً .

فصل

اختلفوا في قوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } هل يفيدُ العموم ؟ فقال بعضهم : لا ؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم . وقال آخرون : بلى ؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان ، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها ، كان من المسلمين ، فاقتضت نفي جميع المسلمين ؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ ، إلاَّ بدليلٍ منفصل ، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة ، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة ، إلى أن يرد نص خاص .


[18035]:ينظر: المحرر الوجيز 3/70، البحر المحيط 5/87، الدر المصون 3/491.
[18036]:تقدم.
[18037]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/445) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/478) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18038]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/319).
[18039]:البيت لبشار بن برد ينظر: ديوانه (4/100)، البحر 5/88، معاهد التنصيص 4/204، الدر المصون 3/491.
[18040]:البيت لأبي تمام: ينظر: ديوانه (387) العمدة (2/88)، معاهد التنصيص 4/201، الدر المصون 3/491.
[18041]:البيت لأبي تمام ينظر: ديوانه (387) العمدة 2/88، معاهد التنصيص 4/201، الدر المصون 3/491.
[18042]:ينظر البيت في: عمدة ابن رشيق (2/88) معاهد التنصيص 4/201، 202، شرح شواهد الشافية (111)، اللسان: دعص.