ثمَّ ذكر أهل العذر فقال : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء } قال ابنُ عبَّاسٍ : يعني : الزَّمنى ، والمشايخ والعجزة .
وقيل : هم الصُّبيان . وقيل : النِّسوان . { وَلاَ على المرضى } وهم أصحاب العمى ، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة ، { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } يعني : الفقراء ؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين ، " حَرَجٌ " إثم . وقيل : ضيق عن القعود في الغزو . ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً ، فقال { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } . قرأ أبو{[18035]} حيوةَ : " نَصَحُوا اللهَ " بغير لام . وقد تقدَّم أن " نَصَحَ " يتعدَّى بنفسه وباللامِ . والنُّصح : إخلاص العملِ من الغِشّ . ومنه : التَّوبة النصُوح . قال نفطويه : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي : أخلصه له . قال عليه الصلاة والسلام : " الدِّينُ النَّصيحَةُ " ثلاثاً . قالوا لمنْ ؟ قال : " للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ " {[18036]} .
قال العلماءُ : النَّصيحة للهِ : إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص ، والرَّغبة في محابه ، والبُعْد من مساخطه ، والنَّصيحة لرسوله : التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنَّته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والنفقة فيها ، والذب عنها ، ونشرها ، والدُّعاء إليها ، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة ، وكذا النصح لكتاب الله قراءته ، والتفقه فيه ، والذَّب عنه ، وتعليمه وإكرامه ، والتخلُّق به .
والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحقِّ ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين ، ولزوم طاعتهم ، والقيام بواجب حقهم . وأمَّا النصحُ للعامَّةِ : فهو ترك معاداتهم وإرشادهم ، وحب الصَّالحين منهم ، والدعاء لجميعهم ، وإرادة الخير لكافتهم . والمعنى : أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف ، ولا يثيروا الفتنَ ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم ، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم ، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ .
ثم قال تعالى : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } فقوله " مِنْ سبيلٍ " فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والجار قبله خبره . وعلى كلا القولين ف " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، أي : ما على المحسنين سبيل . والمعنى : أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد .
{ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال قتادةُ : نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه{[18037]} . وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم ، وكان ضريراً{[18038]} .
قال بعضهم : في هذه الآية نوعٌ من البديع ، يُسمَّى التلميح ، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ ، أو مثل سائرٍ ، أو شعرٍ نادرٍ ، في فحوى كلامك من غير ذكره ؛ ومنه قوله : [ البسيط ]
اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ *** والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ{[18039]}
يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه : " اليوم خَمْرٌ ، وغداً أمرٌ " .
فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ *** ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ{[18040]} ؟
يشير إلى قصَّة يوشع عليه الصلاة والسلام ، واستيقانه الشَّمس .
لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي *** أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ{[18041]}
أشار إلى البيت المشهور : [ البسيط ]
المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ *** كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ{[18042]}
فكأنه قوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس ؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه . ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله : " من غير ذكره " . ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً .
اختلفوا في قوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } هل يفيدُ العموم ؟ فقال بعضهم : لا ؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم . وقال آخرون : بلى ؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان ، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها ، كان من المسلمين ، فاقتضت نفي جميع المسلمين ؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ ، إلاَّ بدليلٍ منفصل ، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة ، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة ، إلى أن يرد نص خاص .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.