تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ} (18)

ثم قال : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } أي : المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة ، وإذا خاصمت فلا عبارة لها ، بل هي عاجزة عَيِيَّة ، أوَ مَنْ يكون هكذا ينسب إلى جناب الله عز وجل{[26016]} ؟ ! فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن ، في الصورة والمعنى ، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ، ليجبر ما فيها من نقص ، كما قال بعض شعراء العرب :

وَمَا الحَلْي إلا زينَةٌ من نقيصةٍ *** يتمّمُ من حُسْن إذا الحُسْن قَصَّرا

وأمَّا إذَا كان الجمالُ موفَّرا*** كحُسْنك ، لم يَحْتَجْ إلى أن يزَوَّرا

وأما نقص معناها ، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار ، لا عبارة لها ولا همة ، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت : " ما هي بنعم الولد : نصرها بالبكاء ، وبرها سرقة " .


[26016]:- (1) في ت: "الله تعالى"، وفي م، أ: "الله العظيم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ} (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } .

يقول تعالى ذكره : أو من ينبت في الحلية ويزين بها وَهُوَ فِي الخِصَامِ يقول : وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غير مبين ، من خصمه ببرهان وحجة ، لعجزه وضعفه ، جعلتموه جزء الله من خلقه وزعمتم أنه نصيبه منهم ، وفي الكلام متروك استغنى بدلالة ما ذكر منه وهو ما ذكرت .

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ، فقال بعضهم : عُنِي بذلك الجواري والنساء . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : يعني المرأة .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة ، عن مرثد ، عن مجاهد ، قال : رخص للنساء في الحرير والذهب ، وقرأ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرَ مُبِينٍ قال : يعني المرأة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرُ مُبِينٍ قال : الجواري جعلتموهنّ للرحمن ولدا ، كيف تحكمون .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : الجواري يسفههنّ بذلك ، غير مبين بضعفهنّ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ يقول : جعلوا له البنات وهم إذا بشّر أحدهم بهنّ ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم . قال : وأما قوله : وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ يقول : قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلاّ تكلمت بالحجة عليها .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : النساء .

وقال آخرون : عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْ مَنْ يُنَشّأ فِي الْحِلْيةِ . . . الاَية ، قال : هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب يعبدونها هم الذين أنشأُوها ، ضربوها من تلك الحلية ، ثم عبدوها وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : لا يتكلم ، وقرأ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبينٌ .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عني بذلك الجواري والنساء ، لأن ذلك عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ، وقلة معرفتهم بحقه ، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل ، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم ، والمنعم عليهم النعم التي عددها في أوّل هذه السورة ما لا يرضونه لأنفسهم ، فاتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر .

واختلف القرّاء في قراءة قوله : أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين «أوْ مَنْ يَنْشَأُ » بفتح الياء والتخفيف من نشأ ينشأ . وقرأته عامة قرّاء الكوفة يُنَشّأُ بضم الياء وتشديد الشين من نُشّأته فهو ينَشّأ .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، لأن المنشّأ من الإنشاء ناشىء ، والناشىء منشأ ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «أوْ مَنْ لا يُنَشّأُ إلاّ فِي الْحِلْيَةِ » ، وفي «من » وجوه من الإعراب الرفع على الاستئناف والنصب على إضمار يجعلون كأنه قيل : أو من ينشأ في الحلية يجعلون بنات الله . وقد يجوز النصب فيه أيضا على الردّ على قوله : أم اتخذ مما يخلق بنات أو من ينشأ في الحلية ، فيردّ «من » على البنات ، والخفض على الردّ على «ما » التي في قوله : وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ} (18)

عطف إنكارٍ على إنكار ، والواو عاطفة الجملة على الجملة وهي مؤخرة عن همزة الاستفهام لأن للاستفهام الصدْر وأصل الترتيب : وَأَمَنْ ينشأ . وجملة الاستفهام معطوفة على الإنكار المقدّر بعدَ { أم في قوله : { أم اتخذ ممّا يخلق بناتٍ } [ الزخرف : 16 ] ، ولذلك يكون { من ينشؤا في الحلية } في محل نصب بفعل محذوف دلّ عليه فعل { اتخذ في قوله : { أم اتخذ مما يخلق بنات } [ الزخرف : 16 ] . والتقدير : أأتّخذ مَن ينشأ في الحلية الخ . ولك أن تجعل { من ينشؤا في الحلية } بدلاً من قوله { بنات بدلاً مطابقاً وأبرز العامل في البدل لتأكيد معنى الإنكار لا سيما وهو قد حذف من المبدل منه . وإذ كان الإنكار إنما يتسلط على حكم الخبر كان موجب الإنكار الثاني مغايراً لموجب الإنكار الأول وإن كان الموصوف بما لوصفين اللذيْن تعلق بهما الإنكار موصوفاً واحداً وهو الأنثى .

ونَشْءُ الشيء في حالةٍ أن يكون ابتداءُ وجوده مقارناً لتلك الحالة فتكون للشيء بمنزلة الظرف . ولذلك اجتلب حرف في } الدّالة على الظرفية وإنما هي مستعارة لِمعنى المصاحبة والملابسة فمعنى { من ينشؤا في الحلية } مَن تُجعل له الحلية من أول أوقات كونه ولا تفارقُه ، فإن البنت تُتَّخَذُ لها الحلية من أول عمرها وتستصحب في سائر أطوارها ، وحسبك أنها شُقّت طرفا أذنيها لتجعل لها فيهما الأقراط بخلاف الصبي فلا يُحلّى بمثل ذلك وما يستدام له . والنَّشْءُ في الحلية كناية عن الضعف عن مزاولة الصعاب بحسب الملازمة العُرفية فيه . والمعنى : أن لا فائدة في اتخاذ الله بنات لا غناء لهن فلا يحصل له باتخاذها زيادة عِزّة ، بناء على متعارفهم ، فهذا احتجاج إقناعي خطابي .

و { الخصام } ظاهره : المجادلة والمنازعة بالكلام والمحاجّة ، فيكون المعنى : أن المرأة لا تبلغ المقدرة على إبانة حجتها . وعن قتادة : ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتْها على نفسها ، وعنه : { من ينشأ في الحلية } هنّ الجواري يسفِّههن بذلك ، وعلى هذا التفسير درج جميع المفسرين .

والمعنى عليه : أنّهن غير قوادر على الانتصار بالقول فبلأولى لا يقدرْنَ على ما هو أشد من ذلك في الحرب ، أي فلا جدوى لاتّخاذهن أولاداً .

ويجوز عندي : أن يحمل الخصامُ على التقاتل والدّفاع باليد فإن الخصم يطلق على المُحارب ، قال تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربّهم } [ الحج : 19 ] فُسِّر بأنهم نفر من المسلمين مع نفر من المشركين تقاتلوا يوم بدر .

فمعنى { غير مبين } غيرُ محقق النصر . قال بعض العرب وقد بُشر بولادة بنت : « والله ما هي بِنِعْمَ الولدُ بزُّها بكاء ونصرها سرقة » .

والمقصود من هذا فضح معتقدهم الباطل وأنهم لا يحسنون إعمال الفكر في معتقداتهم وإلا لكانوا حين جعلوا لله بنوة أن لا يجعلوا له بنوة الإناث وهم يُعدّون الإناث مكروهات مستضعفات . وتذكير ضمير { وهو في الخصام } مراعاة للفظ { مَن } الموصولة .

و { الحلية } : اسم لما يُتحلّى به ، أي يُتزين به ، قال تعالى : { وتستخرجون منه حلية تلبسونها } [ النحل : 14 ] .

وقرأ الجمهور { يَنشأ } بفتح الياء وسكون النون . وقرأه حفص وحمزة والكسائي { يُنَشَّأُ } بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ومعناه : يعوده على النشأة في الحلية ويربّى .