{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي : أعرض عن بنيه وقال متذكرا حُزنَ يوسف القديم الأول : { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } جَدَّد له حزنُ الابنين{[15259]} الحزن الدفين .
قال عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن سفيان العُصْفُريّ ، عن سعيد بن جبير أنه قال : لم يعط أحد غيرَ هذه الأمة الاسترجاع ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب ، عليه السلام : { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } أي : ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق{[15260]} قاله قتادة وغيره .
وقال الضحاك : { فَهُوَ كَظِيمٌ } كميد حزين .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة [ حدثنا أبو موسى ] ، عن علي بن زيد{[15261]} عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن داود عليه السلام ، قال : يا رب ، إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاجعلني لهم رابعا . فأوحى الله تعالى إليه أن يا داود ، إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن إسحاق بذل مهجة{[15262]} دمه في سببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه حتى ابيضت عيناه من الحزن ، فصبر ، وتلك بلية لم تنلك " .
وهذا مرسل ، وفيه نكارة{[15263]} ؛ فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح ، ولكن علي بن زيد بن جُدْعَان له مناكير وغرائب كثيرة ، والله أعلم .
وأقرب ما في هذا أن يكون قد حكاه الأحنف بن قيس ، رحمه الله ، عن بني{[15264]} إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما ، والله أعلم ، فإن الإسرائيليين ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رده ، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء ، فإبراهيم ابتلي بالنار ، وإسحاق بالذبح ، ويعقوب بفراق يوسف ، في حديث طويل لا يصح ، والله أعلم ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَتَوَلّى عَنْهُمْ وأعرض عنهم يعقوب ، وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ يعني : يا حزنا عليه . يقال : إن الأسف هو أشدّ الحزن والتندم ، يقال منه : أسفت على كذا آسف عليه أسفا . يقول الله جلّ ثناؤه : وابيضت عينا يعقوب من الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ يقول : فهو مكظوم على الحزن ، يعني أنه مملوء منه ممسك عليه لا يبينه صرف المفعول منه إلى فعيل . ومنه قوله : والكاظِمِينَ الغَيْظَ وقد بيّنا معناه بشواهده فيما مضى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله وَقالَ يا أسَفَا على يُوسُفَ :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَتَوَلّى عَنْهُمْ أعرض عنهم ، وتتامّ حزنه ، وبلغ مجهوده ، حين لحق بيوسف أخوه وهيّج عليه حزنه على يوسف ، فقال : يا أسَفَا على يُوسُفَ وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ يقول : يا حَزَنَى على يوسف .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يا أسَفَا على يُوسُفَ : يا حَزَنَا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يا أسَفَا على يُوسُفَ : يا جزعاه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يا أسَفَا على يُوسُفَ يا جزعاه حزنا .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يا أسَفَا على يُوسُفَ قال : يا جزعا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أسَفَا على يُوسُفَ أي حزناه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يا أسَفَا على يُوسُفَ قال : يا حزناه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد المَعْمَري ، عن معمر ، عن قتادة ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ . . . .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حجيرة ، عن الضحاك : يا أسَفَا على يُوسُفَ قال : يا حَزَنا على يوسف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : يا أسَفَا يا حزناه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك : يا أسَفَا يا حزنا على يوسف .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير ، قال : لم يعط أحدٌ غير هذه الأمة الاسترجاع ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب : يا أسَفَا على يُوسُفَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن جبير ، نحوه .
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله تعالى وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم الحزن .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم الحزن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : الحزن .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ مكمود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم على الحزن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : الكظيم : الكميد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : فَهُو كَظِيمٌ قال كميد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : كَظِيمٌ قال : كميد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ يقول : يردّد حزنه في جوفه ولم يتكلم بسوء .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم على الحزن فلم يقل بأسا .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم على الحزن فلم يقل إلاّ خيرا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن يزيد بن زُريع ، عن عطاء الخراسانيّ : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : مكروب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : من الغيظ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَابْيَضّتْ عَيناهْ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ . قال : الكظيم : الذي لا يتكلم ، بلغ به الحزن حتى كان لا يكلمهم .
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ( 84 ) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ( 85 ) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 86 )
المعنى : أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به ، { تولى عنهم } أي زال بوجهه عنهم وجعل يتفجع ويتأسف ، قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع{[6782]} ألا ترى إلى قول يعقوب : { يا أسفي } .
قال القاضي أبو محمد : والمراد : «يا أسفي » . لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفاً نحو : يا غلاماً ويا أبتا ، ونادى الأسف على معنى احضر فهذا من أوقاتك . وقيل : قوله : { يا أسفى } على جهة الندبة ، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلداً منه عليه السلام ، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل ، وقيل : قوله : { يا أسفى } نداء فيه استغاثة{[6783]} .
قال القاضي أبو محمد : ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع و { يا أسفى } لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام .
{ وابيضت عيناه } أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن ، وروي «أن يعقوب عليه السلام حَزِنَ حُزْنَ سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط » ، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم{[6784]} .
وقرأ ابن عباس ومجاهد «من الحَزَن » بفتح الحاء والزاي ، وقرأ قتادة بضمهما وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي .
{ وهو كظيم } بمعنى كاظم ، كما قال { والكاظمين الغيظ }{[6785]} [ آل عمران : 134 ] ، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد ، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره ، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والفجر . وقال ناس : { كظيم } بمعنى : مكظوم .
قال القاضي أبو محمد : وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله { إذ نادى وهو مكظوم }{[6786]} [ القلم : 48 ] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم بثه في صدره ، وجري كظيم على باب كاظم أبين . وفسر ناس «الكظيم » بالمكروب وبالمكمود - وذلك كله متقارب - وقال منذر بن سعيد : الأسف إذا كان من جهة من هو أقل من الإنسان فهو غضب ، ومنه قول الله تعالى : { فلما آسفونا انتقمنا منهم }{[6787]} [ الزخرف : 55 ] ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم : فأسفت فلطمتها ؛ وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو حزن وهم .
قال القاضي أبو محمد : وتحرير هذا المنزع : أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن ، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها ،
انتقال إلى حكاية حال يعقوب عليه السلام في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه ، فالتولي حاصل عقب المحاورة . و { تولى } : انصرف ، وهو انصراف غَضَب .
ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أخواله تجدد أسفه على يوسف عليه السلام فقال : { يا أسفى على يوسف } والأسف ؛ أشد الحزن ، أسِف كحزن .
ونداء الأسف مجاز . نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له : احضر فهذا أوان حضورك ، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف .
والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفاً .
وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف عليه السلام ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكرُه أن يعقوب عليه السلام لم يتحسّر قط إلاّ على يوسف ، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها .
وكذلك عطف جملة { وابيضت عيناه من الحزن } إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة . فكل من التولّي والتحسر واببيضاض العينين من أحواله إلاّ أنها مختلفة الأزمان .
وابيضاض العينين : ضعُف البصر . وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال . ولذلك عبّر ب { وابيضت عيناه } دون عميت عيناه .
و { من } في قوله : { من الحزن } سببية . والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين . وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة :
قبل ما اليوم بيّضَتْ بعيون الن *** اس فيها تغيض وإباء
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر . فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار ؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء ، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحَزن والجزع عند المصائب . وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى عليه السلام أربعين يوماً ، وحَكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع . وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية .
والكظيم : مبالغة للكاظم . والكَظم : الإمساك النفساني ، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس ، ويبكي في خلوته ، أو هو فعيل بمعنى مفعول ، أي محزون كقوله : { وهو مكظوم .