تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (30)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } أي : يا ويل العباد .

وقال قتادة : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } : أي يا حسرة العباد على أنفسها ، على ما ضيعت من أمر الله ، فرطت في جنب الله . قال : وفي بعض القراءة : " يا حسرة{[24735]} العباد على أنفسها " .

ومعنى هذا : يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، كيف كذبوا رسل الله ، وخالفوا أمر الله ، فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم .

{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : يكذبونه ويستهزئون به ، ويجحدون ما أرسل به من الحق .


[24735]:- في ت، س، أ : "حسرة على".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .

يقول تعالى ذكره : يا حسرةً من العباد على أنفسها ، وتندّما وتلهفا في استهزائهم برسل الله ، ما يَأتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ من الله إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . وذُكر أن ذلك في بعض القراءات : «يا حَسْرَةَ العِبادِ عَلى أنْفُسِها » ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ : أي يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضَيّعت من أمر الله ، وفرّطت في جنب الله . قال : وفي بعض القراءات : «يا حَسْرَةَ العِبادِ عَلى أنْفُسِها » .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ قال : كان حسرةً عليهم استهزاؤهم بالرسل .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ يقول : يا ويلاً للعباد ، وكان بعض أهل العربية يقول : معنى ذلك : يا لها حسرةً على العباد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (30)

وقوله { يا حسرة } نداء لها على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبويه ، وهو معنى قويم في نفسه ، وهو نداء منكور على هذا القراءة{[7]} ، قال الطبري : المعنى «يا حسرة العباد على أنفسهم » ، وذكر أنها في بعض القراءات كذلك ، وقال ابن عباس : «يا ويلا العباد » ، وقرأ ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين ومجاهد وأبي بن كعب «يا حسرةَ العبادِ » ، بإضافتها{[8]} ، وقول ابن عباس حسن مع قراءته ، وتأويل الطبري في ذلك القراءة الأولى ليس بالبين وإنما يتجه أن يكون المعنى تلهفاً على العباد ، كأن الحال يقتضيه وطباع كل بشر توجب عند سماعه حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله تعالى أن يشفق ويتحسر على العبادة ، وقال أبو العالية : المراد ب { العباد } : الرسل الثلاثة ، فكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم ، وقوله تعالى :

{ ما يأتيهم } الآية ، يدافع هذا التأويل ، والحسرة :التلهفات التي تترك صاحبها حسيراً ، وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب{[9]} وأبو الزناد{[10]} «يا حسرة » بالوقف على الهاء وذلك للحرص على بيان معنى التحسر وتقريره للنفس ، والنطق بالهاء في مثل هذا أبلغ في التشفيق وهز النفس كقولهم : أوه ونحوه{[11]} ، وقوله { ما يأتيهم من رسول } الآية ، تمثيل لفعل قريش .


[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
[11]:- في بعض النسخ (رفْع) بالراء.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (30)

{ يا حسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إلا كانوا به يستهزءون } .

تذييل وهو من كلام الله تعالى واقع موقع الرثاء للأمم المكذبة الرسل شامل للأمة المقصودة بسوق الأمثال السابقة من قوله : { واضْرِبْ لَهُم مَثَلاً أصحابَ القرية } [ يس : 13 ] ، واطراد هذا السَنن القبيح فيهم . فالتعريف في { العباد } تعريف الجنس المستعمل في الاستغراق وهو استغراق ادعائي روعي فيه حال الأغلب على الأمم التي يأتيها رسول لعدم الاعتداء في هذا المقام بقلة الذين صدَّقوا الرسل ونصروهم فكأنَّهم كلهم قد كذبوا .

و { العباد } : اسم للبشر وهو جمع عبد . والعبد : الممْلوك وجميع الناس عبيد الله تعالى لأنه خالقهم والمتصرف فيهم قال تعالى : { رزقاً للعباد } [ ق : 11 ] ، وقال المغيرة بن حبناء :

أمسَى العباد بشَرَ لا غياث لهم *** إلا المهلب بعد الله والمطرُ

ويجمع على عبيد وعباد وغلب الجمع الأول على عبد بمعنى مملوك ، والجمع الثاني على عبد بمعنى آدمي ، وهو تخصيص حسن من الاستعمال العربي .

والحسرة : شدة الندم مشوباً بتلهف على نفع فائت . وحرف النداء هنا لمجرد التنبيه على خطر ما بعده ليصغي إليه السامع وكثر دخوله في الجمل المقصود منها إنشاء معنى في نفس المتكلم دون الإِخبار فيكون اقتران ذلك الإِنشاء بحرف التنبيه إعلاناً بما في نفس المتكلم من مدلول الإِنشاء كقولهم : يا خيبة ، ويا لعنة ، ويا ويلي ، ويا فرحي ، ويا ليتني ، ونحو ذلك ، قالت امرأة من طي من أبيات الحماسة :

فيا ضَيعَةَ الفتيان إذ يعتلونه *** ببطن الشرا مثل الفنيق المسدّم

وبيت الكتاب :

يا لعنةَ الله والأقوام كلّهم *** والصالحين على سِمْعانَ من جار

وقد يقع النداء في مثل ذلك بالهمزة كقول جعفر بن علبة الحارثي :

أَلهْفَى بقُرَّى سَحْبلٍ حين أجلبت *** علينا الولايا والعدوُّ المباسل

وأصل هذا النداء أنه على تنزيل المعنى المثير للإِنشاء منزلة العاقل فيقصد اسمه بالنداء لطلب حضوره فكأن المتكلم يقول : هذا مقامك فاحْضر ، كما ينادَى من يقصد في أمر عظيم ، ويُنتقل من ذلك إلى الكتابة عما لحق المتكلم من حاجة إلى ذلك المنادي ثم كثر ذلك وشاع حتى تنوسي ما فيه من الاستعارة والكناية وصار لمجرد التنبيه على ما يجيء بعده ، والاهتمام حاصل في الحالين .

وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { يا ليتني كنت معهم } في سورَة النساء } ( 73 ) ، وقوله : { يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً } في سورة الفرقان } ( 28 ) .

وموقع مثله في كلام الله تعالى تمثيل لحال عباد الله تعالى في تكذيبهم رسل الله بحال من يَرثي له أهله وقوعه في هلاك أرادوا منه تجنبه .

وجملة { ما يأتِيهِم مِن رَسُولٍ } بيان لوجه التحسّر عليهم لأن قوله : { ياحسرة على العِبَادِ } وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية فإنه لما عمّم على جميع العباد حدث إيهام في وجه العموم . فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضُرب بهم المثل ومن ضُرب لهم في تلك الحالة الممثل بها ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا ، فعُلم وجه الحسرة عليهم إجمالاً من هذه الآية ثم تفصيلاً من قوله بعد : { ألم يروا كم أهلكنا } [ يس : 31 ] الخ .

والاستثناء في قوله : { إلاَّ كانوا به يَستهزئون } مفرغ من أحوال عامة من الضمير في { يَأتِيهِم } أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا في حال استهزائهم به .

وتقديم المجرور على { يَسْتَهْزئونَ } للاهتمام بالرسول المشعر باستفظاع الاستهزاء به مع تأتِّي الفاصلة بهذا التقديم فحصل منه غرضان من المعاني ومن البديع .