اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (30)

قوله : { يا حسرة } العامة على نصبها . وفيه{[46009]} وجهان :

أحدهما : أنها منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تَحسَّرُوا حَسْرَةً{[46010]} .

والثاني : أنها منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها{[46011]} كقوله :

4177- فَيَا رَاكِباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغاً . . . نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقِيَا{[46012]}

ومعنى النداء هنا على المجاز ، كأنه قيل : هذا أوانك فاحضري . وقرأ قتادة وأبيّ{[46013]} - في أحد وجهيه- يا حسرة بالضم{[46014]} جَعَلها مقبلاً عليها وأبيّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحُسَيْن { يَا حَسْرَةً العِبادِ }{[46015]} بالإضافة فيجوز أن تكون الحسرة مصدرا مضافا لفاعله أي : يتحسرون على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافاً لمفعوله أي : يَتَحَسَّرُ عليهم ( من ){[46016]} غيرهم{[46017]} . وقرأ أبو الزناد{[46018]} وابن هُرْمز{[46019]} وابن جُنْدُب{[46020]} { يا حَسْرَهْ } بالهاء ( المهملة ){[46021]} المبدلة من تاء التأنيث وصلاً{[46022]} وكأنهم أَجْروا الوَصْل مُجْرَى الوقف وله نظائر مرت{[46023]} . وقال صاحب اللوامح{[46024]} :وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التَّاهَةِ بمعنى التأوه ثم وصلوا على{[46025]} تلك الحال . وقرأ ابن عباس أيضاً : يا حَسْرَة بفتح التاء{[46026]} من غير تنوين ، ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزئ بالفتحة عن الألف كما اجتزئ بالكسرة عن الياء{[46027]} ومنه :

4178- وَلَسْتُ براجِعِ مَا فَات مِنِّي . . . بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَ انِّي{[46028]}

أي :بلهفها{[46029]} بمعنى لهفي . وقرئ : يا حَسْرتَا بالألف كالتي في الزمر{[46030]} . وهي شاهدة لقراءة ابن عباس وتكون التاء لله تعالى ، وذلك على سبيل المجاز دلالة على فرط هذه الحسرة ، وإلا فاللَّه تعالى لا يوصف بذلك{[46031]} . قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ } هذه الجملة لا محل لها لأنها مفسِّره لسبب الحسرة عليهم{[46032]} . وهذا الضمير يجوزأن يكون عائداً إلى قوم حبيب أي :ما يأتيهم من رسول من الرّسلِ الثلاثة . ويجوز أن يعود إلى الكفار المصرين{[46033]} . وقوله : { إلاَّ كَانُوا } جملة حالية من مفعول { يَأْتِيهِمْ }{[46034]} .

فصل :

الألف واللام في العباد قيل : للعهد وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك . وقيل : لتعريف الجنس أي جنس الكفار المكذبين{[46035]} وقيل : المراد بالعباد الرسل الثلاثة كأنه الكافرين يقولون عند ظهور اليأس : يا حسرةً عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين لنؤمن بهم ثانياً{[46036]} ، وهم قوم ( حبيب ){[46037]} . وفي التحسر وجوه :

الأول : لا متحسر{[46038]} أصلاً في الحقيقة إذ المقصودُ بيانُ ( أن ){[46039]} ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عن تحقق العذاب ، وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض كثيراً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال{[46040]} : فلان يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء مُعْطًى ولا شخص معطى ، إذ المقصود أن له المنع والإعطاء ، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل . والوجه فيه أن ذكر التحسر{[46041]} غير مقصود ، وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في خلال الوقت .

الثاني : أن القائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً للأمر وتهويلاً له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضِّحِك والسُّخْرية والتعجب والتّمنِّي .

أو يقال : ليس معنى قوله يا حسرة أو يا ندامة أن القائل متحسر أو نادم{[46042]} ، بل المعنى : أنه مخبرٌ عن الوقوع وقوع الندامة ولا يحتاج إلى التجوز في كونه تعالى قائلاً : يا حسرة ، بل تجْريه على حقيقته إلا في النداء فإن النداء مجاز والمراد الإخبار .

الثالث : أن المتلهفين من المسلمين والملائكة لما حكى عن حبيب أنه حين القتل كان يقول اللَّهم اهد قومي ، وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه . وقوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } هذا سبب الندامة{[46043]} .

فصل :

قال الزهري : الحسرة لا تدعى ، ودعاؤها تنبيه للمخاطبين ، وقيل العرب تقول : يا حَسْرَتَا ويا عَجَبَا على طريق المبالغة .

والنداء عندهم بمعنى التنبيه فكأنه يقول : أيها العجبُ هذا وقتُكَ وأيتها الحسرة هذا أوَانُكِ وحقيقة المعنى أن هذا زمان الحسرة والتَّعَجُّب{[46009]} .


[46009]:في "ب" وفيها.
[46010]:قاله أبو البقاء في التبيان 1081 ونقلت في الدر المصون 4/507.
[46011]:قال بذلك مكي في المشكل 2/224 والنحاس في الإعراب 3/391 وأبو البقاء في التبيان 1081، والزمخشري في الكشاف 2/320 والسمين في الدر المصون 4/507 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/284 وابن الأنباري في البيان 2/294 ولكنه جعلها على النداء الشبيه بالمضاف، والفراء في المعاني 2/375 ومجيزا فيه الرفع.
[46012]:من بحر الطويل لعبد يغوث بن أبي وقاص من قصيدة قالها وهو في الأسر. والشاهد "يا راكبا" حيث نصب المنادى لأنه نكرة غير مقصودة لأنه لم يقصد راكبا بعينه كقول الأعمى: يا رجلا خذ بيدي.ونجران مكان لقبيلة. وعرضت: بلغت العروض وهي مكة والمدينة وما حولها. وقد تقدم.
[46013]:ابن كعب الصحابي الأنصاري سيد القراء انظر: غاية النهاية 1/31.
[46014]:من الشواذ غير المتواتر وانظر: مختصر ابن خالويه 125، والبحر المحيط 7/332، والدر المصون 4/508.
[46015]:الكشاف 3/321 والبحر 7/332 والمحتسب 2/208 ومختصر ابن خالويه 125 ومعاني الفراء 2/375 وهي من الشواذ.
[46016]:زيادة من "أ" لا معنى لها.
[46017]:وانظر: المحتسب 2/208 والدر المصون 4/508.
[46018]:هو ابن ذكوان وقد ترجم له.
[46019]:هو عبد الرحمن بن هرمز أحد البصريين الأوائل أبو داود المدني تابعي جليل. أخذ عن أبي هريرة وابن عباس مات سنة 117 هـ. انظر: طبقات القراء 1/381.
[46020]:مسلم بن جندب أبو عبد الله الهذلي. مولاهم القاص تابعي مشهور. عرض على ابن عباس بن أبي ربيعة عرض عليه نافع عنه ابن ابنه وزيد بن أسلم وكان من وضحاء زمانه. مات سنة 130 هـ غاية النهاية 2/297.
[46021]:سقط من "ب".
[46022]:من القراءة الشاذة نقلها ابن جني في المحتسب وابن خالويه في المختصر المرجعين السابقين وانظر: الكشاف 3/321 والبحر 7/332.
[46023]:كقوله تعالى: {ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} الآية 156 آل عمران وكقوله: {يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} الآية 31 من الأنعام.
[46024]:أبو الفضل الرازي وسبق ترجمته.
[46025]:البحر 7/332 والدر المصون 4/508.
[46026]:المرجعان السابقان وانظر: المختصر 125.
[46027]:البحر والدر المصون المرجعان السابقان.
[46028]:من الوافر ولم يعز فيما عثرت عليه من مراجع. وشاهده: حذف الألف من قوله : "لهف" اجتزاء بالفتحة عنها وهذه الألف منقلبة عن ياء المتكلم " لهفي" فقوله: "بالكسرة عن الياء" راجع إلى الأصل. وانظر: المحتسب 1/277 و 323 والأمالي الشجرية 2/74 والإنصاف 390 و 449 و 546 والتصريح 2/177 والأشموني 2/282 و 3/155 والخصائص 3/135 ومعاني الأخفش 1/65.
[46029]:في "أ" بلهف.
[46030]:وهي قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} 56 من الزمر ولم يذكر في البحر من قرأ بها.
[46031]:البحر المحيط السابق والدر المصون 4/509.
[46032]:التبيان 1081 والدر المصون 4/509.
[46033]:في "ب" والمغترين.
[46034]:الدر المصون 4/509.
[46035]:قالهما الرازي في تفسيره 26/62.
[46036]:السابق 26/63.
[46037]:سقط من ب.
[46038]:في (ب) تحسر.
[46039]:سقط من ب.
[46040]:في (ب) فيقال.
[46041]:في "ب" المتحسر.
[46042]:في "ب" متحسرا أو نادما. بالنصب.
[46043]:وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي 26/63.