مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (30)

ثم قال تعالى : { يا حسرة على العباد } أي هذا وقت الحسرة فاحضري يا حسرة والتنكير للتكثير ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الألف واللام في العباد يحتمل وجهين أحدهما : للمعهود وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك وثانيهما : لتعريف الجنس جنس الكفار المكذبين .

المسألة الثانية : من المتحسر ؟ نقول فيه وجوه الأول : لا متحسر أصلا في الحقيقة إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقق العذاب .

وههنا بحث لغوي : وهو أن المفعول قد يرفض رأسا إذا كان الغرض غير متعلق به يقال إن فلانا يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء معطي إذ المقصود أن له المنع والإعطاء ، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل ، والوجه فيه ما ذكرنا ، أن ذكر المتحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت الثاني : أن قائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيما للأمر وتهويلا له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني ، أو نقول ليس معنى قولنا يا حسرة ويا ندامة ، أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبر عن وقوع الندامة ، ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال : { يا حسرة } بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء ، فإن النداء مجاز والمراد الإخبار الثالث : المتلهفون من المسلمين والملائكة ألا ترى إلى ما حكي عن حبيب أنه حين القتل كان يقول : اللهم اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال : يا ليت قومي يعلمون ، فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه .

المسألة الثالثة : قرئ { يا حسرة } بالتنوين ، و ( يا حسرة العباد ) بالإضافة من غير كلمة على ، وقرئ يا حسرة علي بالهاء إجراء للوصل مجرى الوقف .

المسألة الرابعة : من المراد بالعباد ؟ نقول فيه وجوه أحدها : الرسل الثلاثة كأن الكافرين يقولون عند ظهور البأس يا حسرة عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين شأننا لنؤمن بهم وثانيها : هم قوم حبيب وثالثها : كل من كفر وأصر واستكبر وعلى الأول فإطلاق العباد على المؤمنين كما في قوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقوله : { قل يا عبادي الذين أسرفوا } وعلى الثاني فإطلاق العباد على الكفار ، وفرق بين العبد مطلقا وبين المضاف إلى الله تعالى فإن الإضافة إلى الشريف تكسو المضاف شرفا تقول بيت الله فيكون فيه من الشرف ما لا يكون في قولك البيت ، وعلى هذا فقوله تعالى : { وعباد الرحمن } من قبيل قوله : { إن عبادي } وكذلك { عباد الله } .

ثم بين الله تعالى سبب الحسرة بقوله تعالى : { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون } وهذا سبب الندامة وذلك لأن من جاءه ملك من بادية ، وأعرفه نفسه ، وطلب منه أمرا هينا فكذبه ولم يجبه إلا ما دعاه ، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك ، يكون عنده من الندامة ما لا مزيد عليه ، فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابه كما قال :

{ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وجاؤا وعرفوا أنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس ، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم ، وكان ما يدعون إليه أمرا هينا نفعه عائد إليهم من عبادة الله وما كانوا يسألون عليه أجرا ، فعند ذلك تكون الندامة الشديدة ، وكيف لا وهم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزأوا واستخفوا واستهانوا وقوله : { ما يأتيهم } الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى قوم حبيب ، أي ما يأتيهم من رسول من الرسل الثلاثة { إلا كانوا به يستهزؤون } على قولنا الحسرة عليهم ، ويجوز أن يكون عائدا إلى الكفار المصرين .