تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن ، مما أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لَمَّا أنكره مَنْ أنكره من أهل الكفر والعناد ، فإحداهن في سورة يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [ يونس : 53 ] ، والثانية هذه : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، والثالثة في التغابن : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] ، فقوله : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ }{[24147]} ، ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره : { عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } .

قال مجاهد وقتادة : { لا يَعْزُبُ عَنْهُ } لا يغيب عنه ، أي : الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه منه شيء ، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين{[24148]} تفرقت ، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة ، فإنه بكل شيء عليم .


[24147]:- في ت: "ليأتينكم".
[24148]:في أ: "وإن".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .

يقول تعالى ذكره : ويستعجلك يا محمد الذين جحدوا قُدرة الله على إعادة خلقه بعد فنائهم بهيئتهم التي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقيام الساعة ، استهزاء بوعدك إياهم ، وتكذيبا لخبرك ، قل لهم : بلى تأتيكم وربي ، قسما به لتأتينكم الساعة ، ثم عاد جلّ جلاله بعد ذكره الساعة على نفسه ، وتمجيدها ، فقال : عالِمِ الغَيْبِ .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : «عالِمُ الغَيْبِ » على مثال فاعل ، بالرفع على الاستئناف ، إذ دخل بين قوله : وَرَبّي ، وبين قوله : عالِمَ الغَيْبِ كلام حائل بينه وبينه . وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة ، عالم على مثال فاعل ، غير أنهم خفضوا عالم ردّا منهم له على قوله وَرَبّي إذ كان من صفته . وقرأ ذلك بقية عامة قرّاء الكوفة : «عَلاّمِ الغَيْبِ » على مثال فعّال ، وبالخفض ردّا لإعرابه على إعراب قوله وَرَبّي إذ كان من نعته .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن كلّ هذه القراءات الثلاث ، قراءات مشهورات في قرّاء الأمصار متقاربات المعاني ، فبأيتهنّ قرأ القارىء فمصيب غير أن أعجب القراءات في ذلك إليّ أقرأ بها : «عَلاّمِ الغَيْبِ » على القراءة التي ذكرتها عن عامة قرّاء أهل الكوفة فأما اختيار علام على عالم ، فلأنها أبلغ في المدح . وأما الخفض فيها فلأنها من نعت الربّ ، وهو في موضع الجرّ . وعنى بقوله : «عَلاّم الغَيْبِ » علام ما يغيب عن أبصار الخلق ، فلا يراه أحد ، إما ما لم يكوّنه مما سيكوّنه ، أو ما قد كوّنه فلم يُطلع عليه أحدا غيره . وإنما وصف جلّ ثناؤه في هذا الموضع نفسه بعلمه الغيب ، إعلاما منه خلقه أن الساعة لا يعلم وقت مجيئها أحد سواه ، وإن كانت جائية ، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل للذين كفروا بربهم : بلى وربكم لتأتينكم الساعة ، ولكنه لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى علام الغيوب ، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يغيب عنه ، ولكنه ظاهر له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : لا يَعْزُبُ عَنْهُ يقول : لا يغيب عنه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لا يَعْزُبُ عَنْهُ قال : لا يغيب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرّةٍ : أي لا يغيب عنه .

وقد بيّنا ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : مِثْقالُ ذَرّةٍ يعني : زنة ذرّة في السموات ولا في الأرض يقول تعالى ذكره : لا يغيب عنه شيء من زنة ذرّة فما فوقها فما دونها ، أين كان في السموات ولا في الأرض وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ يقول : ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة وَلا أكْبَرُ منه إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ يقول : هو مثبت في كتاب يبين للناظر فيه أن الله تعالى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلمه ، فلم يعزب عن علمه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب ، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل رداً وتكذيباً وإيجاباً لما نفاه وأجاز نافع الوقف على { بلى } وقرأ الجمهور «لتأتينكم » بالتاء من فوق ، وحكى أبو حاتم قراءة «ليأتينكم » بالياء على المعنى في البعث .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بخلاف «عالمِ » بالخفض على البدل من { ربي } ، وقرأ نافع وابن عامر «عالمُ » بالرفع على القطع ، أي هو عالم ، ويصح أن يكون «عالم » رفع بالابتداء وخبره { لا يعزب } وما بعده ، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب ، وقرأ حمزة والكسائي «علامِ » على المبالغة وبالخفض على البدل{[9598]} و { يعزب } معناه يغيب ويبعد ، وبه فسر مجاهد وقتادة ، وقرأ جمهور القراء «لا يعزُب » بضم الزاي ، وقرأ الكسائي وابن وثاب «لا يعزب » بكسرها وهما لغتان ، و { مثقال ذرة } معناه مقدار الذرة ، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني بالمقايسة وقرأ الجمهور «ولا أصغرُ ولا أكبر » عطفاً على قوله { مثقال } وقرأ نافع والأعمش وقتادة «أصغرَ وأكبرَ » بالنصب عطفاً على { ذرة } ورويت عن أبي عمرو{[9599]} ، وفي قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين ، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ .


[9598]:وأجاز أبو البقاء أن تكون[عالم] صفة، قال أبو حيان:"ويعني أن{عالم الغيب} يجوز ان يتعرف، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك، يجوز أن يتعرف بالإضافة إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة، ذكر ذلك سيبويه في كتابه، وقل من يعرفه".
[9599]:علق أبو حيان على ذلك بقوله:"ولا يتعين ما قال، بل تكون(لا) لنفي الجنس.وهو مبتدأ، أعني مجموع(لا) وما بني معها على مذهب سيبويه، والخبر{إلا في كتاب مبين}، وهو من عطف الجمل لا من عطف المفردات كما قال ابن عطية.