تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

وقوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي : حجتهم . وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : أي : معذرتهم . وكذا قال قتادة . وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : أي قيلهم . وكذا قال الضحاك .

وقال عطاء الخراساني : ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }

وقال ابن جرير : والصواب ثم لم يكن{[10610]} قيلهم عند فتنتنا{[10611]} إياهم{[10612]} اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }{[10613]}

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مُطَرِّف ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال يا أبا{[10614]} عباس . سمعت الله يقول : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال : أما قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، فقالوا : تعالوا فلنجحد ، فيجحدون ، فيختم الله على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا ، فهل في قلبك الآن شيء ؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل{[10615]} فيه شيء ، ولكن لا تعلمون{[10616]} وجهه .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : هذه في المنافقين .

وفي هذا نظر ، فإن هذه الآية مكية ، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة ، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]{[10617]} } [ المجادلة : 18 ] ، وهكذا قال في حق هؤلاء : { انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } كَمَا قَالَ { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ] {[10618]} } [ غافر : 73 ، 74 ] .


[10610]:في أ: "تكن".
[10611]:في م: "فتنتهما"
[10612]:في أ: "لهم".
[10613]:تفسير الطبري (11/300).
[10614]:في م، أ: "يا ابن".
[10615]:في أ: "ترك".
[10616]:في أ: "لا يعلمون".
[10617]:زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
[10618]:زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم ، إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ كذبا منهم في أيمانهم على قيلهم ذلك .

ثم اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ » بالنصب ، بمعنى : لم يكن اختبارنا لهم إلاّ قيلهم وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ غير أنهم يقرءون تَكُنْ بالتاء على التأنيث وإن كانت للقول لا للفتنة لمجاورته الفتنة وهي خبر ، وذلك عند أهل العربية شاذّ غير فصيح في الكلام وقد رُوِي بيت للبيد بنحو ذلك ، وهو قوله :

فَمَضَى وَقَدّمَها وكانَتْ عادَةً ***منهُ إذا هيَ عَرّدَتْ إقْدامُها

فقال : «وكانت » بتأنيث الإقدام لمجاورته قوله : عادة .

وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيين : «ثمّ لَمْ يَكُنْ » بالياء «فِتْنَتَهُمْ » بالنصب إلاّ أنْ قالُوا بنحو المعنى الذي قصده الاَخرون الذين ذكرنا قراءتهم ، غير أنهم ذكروا يكون لتذكير أن وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب ، لأن «أنْ » أثبت في المعرفة من الفتنة .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ فقال بعضهم : معناه : ثم لم يكن قولهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة في قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : مقالتهم . قال معمر : وسمعت غير قتادة يقول : معذرتهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : قولهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا . . . الاَية ، فهو كلامهم ، قالوا : واللّهِ رَبّنَا ما كُنَا مُشْرِكِينَ .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال سمعت الضحاك : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني كلامهم .

وقال آخرون : معنى ذلك معذرتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قال : معذرتهم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ يقول : اعتذارهم بالباطل والكذب .

والصواب من القول في ذلك أن يقال معناه : ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ، إلا أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام . وإنما الفتنة : الاختبار والابتلاء ، ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلاّ عند الاختبار ، وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم .

واختلفت القرّاء أيضا في قراءة قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين : وَاللّهِ رَبّنا خفضا على أن «الرب » نعت لله . وقرأ ذلك جماعة من التابعين : «واللّهِ رَبّنا » بالنصب بمعنى : والله يا ربنا ، وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة .

وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : «وَاللّهِ رَبّنا » بنصب الربّ ، بمعنى : يا ربنا . وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم : أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمونَ وكان من جواب القوم لربهم : والله يا ربنا ما كنا مشركين ، فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا . يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، ويعني بقوله : ما كُنّا مُشْرِكِينَ ما كنا ندعو لك شريكا ولا ندعو سواك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

وقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتنهم إلا أن قالوا } الآية قرأ ابن كثير في رواية شبل عنه ، وعاصم في رواية حفص وابن عامر «تكن فتنتُهم » برفع الفتنة و { إلا أن قالوا } في موضع نصب على الخبر ، التقدير إلا قولهم ، وهذا مستقيم لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث وهي الفتنة ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير أيضاً «تكن فتنتهم » بنصب الفتنة ، واسم كان { أن قالوا } ، وفي هذه القراءة تأنيث { أن قالوا } ، وساغ ذلك من حيث الفتنة مؤنثة في المعنى ، قال أبو علي وهذا كقوله تعالى : { فله عشر أمثالها }{[4863]} فأنث الأمثال لما كانت الحسنات بالمعنى ، وقرأ حمزة والكسائي «يكن » بالياء «فتنتَهم » بالنصب واسم كان { إلا أن قالوا } وهذا مستقيم لأنه ذكر علامة الفعل حين أسنده إلى مذكر ، قال الزهراوي وقرأت فرقة «يكن فتنُهم » برفع الفتنة ، وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكرالعلامة إلى مؤنث ، وجاء ذلك بالمعنى لأن الفتنة بمعنى الاختبار أو المودة{[4864]} في الشيء والإعجاب ، وقرأ أبي بن وكيع وابن مسعود والأعمش «وما كان فتنتهم » ، وقرأ طلحة بن مصرف ، «ثم كان فتنتهم » والفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول فتنت بكذا ، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها وإتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبري منها والإنكار لها ، وهذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته{[4865]} ، ويقال الفتنة في كلام العرب بمعنى الاختبار ، كما قال عز وجل لموسى عليه السلام :{ وفتناك فتوناً }{[4866]} ، وكقوله تعالى : { ولقد فتنا سليمان وألقينا }{[4867]} وتحتمل الآية هاهنا هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار ، فالمعنى ثم لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر ، إلا إنكارهم الإشراك ، وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية ، ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ، ثم يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ ، لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له كقول ذي الرمة : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولَفَّ الُّثرَيَّا في مُلاءتِهِ الفَجْرُ{[4868]}

ونحوه ، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله «ربِّنا » خفض على النعت لاسم الله ، وقرأ حمزة والكسائي «ربَّنا » نصب على النداء ، ويجوز فيه تقدير المدح ، وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين «واللهُ ربُّنا » برفع الاسمين وهذا على تقدير تقديم وتأخير ، كأنهم قالوا ما كنا مشركين والله ربنا ، و { ما كنا مشركين } معناه جحود إشراكهم في الدنيا ، فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ، ويقال لهم أين شركاؤكم فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان . وأتى رجل ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : { والله ربنا ما كنا مشركين } وفي أخرى { ولا يكتمون الله حديثاً } [ النساء : 42 ] فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد ، وقالوا ما كنا مشركين ، فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً .

قال القاضي أبو محمد : وعبر بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا معذرتهم{[4869]} ، قاله قتادة ، وقال آخرون : كلامهم ، قاله الضحاك ، وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه .


[4863]:- من الآية (160) من سورة (الأنعام).
[4864]:- الصواب أن يقال: "أن الود في الشيء"،ولكن النسخ الأصلية كلها كما أثبتنا، وقطعا هو من خطأ النساخ.
[4865]:- قال الزمخشري: الفتنة هنا: كفرهم، والمعنى: ثم لم تكن عاقبة فتنتهم في كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وافتخروا به، وقاتلوا عليه إلا جحوده والتبرؤ منه، وقال الضحاك: الفتنة هنا: إنكارهم، وقال قتادة: عذرهم. والأقوال كثيرة.
[4866]:- من الآية (40) من سورة (طه).
[4867]:- من الآية (34) من سورة (ص).
[4868]:- البيت بتمامه: أقامت بها حتى ذوى العود في الثرى ولفّ الثريا في ملاءته الفجر وهو من قصيدة له معروفة، ومطلعها: ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر
[4869]:- في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (فيلقى العبد فيقول: أي فل، ألم أكرمك وأسوّدك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقال: هاهنا إذا، ثم يقال له: الآن نبعث شاهدا عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي سخط الله عليه). ومعنى (فل) بضم الفاء وسكون اللام يا فلان، وهو ترخيم على غير القياس كما قاله النووي، وقيل: ليس ترخيما بل هي لغة بمعنى فلان لأنه لا يقال إلا بسكون اللام، ولو كان ترخيما لفتحوها أو ضموها- ومعنى (تربع) أي: تأخذ ربع الغنيمة.